في العصر الرقمي الذي نعيشه، لم تعد كتب الطهي الفاخرة أو برامج التلفزيون الشهيرة هي المصدر الوحيد لشهرة الوصفات. لقد برزت منصة “تيك توك” كقوة هائلة في عالم الطعام، محولةً أطباقاً بسيطة أحياناً وغريبة أحياناً أخرى إلى ظواهر عالمية يتهافت الملايين لتجربتها ومشاركتها. من القهوة المخفوقة إلى باستا الفيتا والطماطم، أصبحت هذه الوصفات جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا الغذائية الحديثة.
في هذا المقال، سنغوص في عالم وصفات “التريند” التي انطلقت من تيك توك واجتاحت الإنترنت. لن نكتفِ بتقديم طريقة التحضير، بل سنحلل الأسباب النفسية والاجتماعية التي تقف وراء هذه الشهرة الواسعة، ونكشف سر الخلطة السحرية التي تجعل من فيديو مدته 60 ثانية ظاهرة عالمية.
نماذج لوصفات “تريند” هزت الإنترنت
لت فهم هذه الظاهرة، دعونا نستعرض بعض الأمثلة الأيقونية التي انطلقت من تيك توك وحققت انتشاراً فيروسياً:
1. قهوة الدالغونا (Dalgona Coffee): سحابة الكافيين التي غزت الحجر الصحي
- ما هي؟ وصفة بسيطة بشكل مدهش تتكون من خفق كميات متساوية من القهوة سريعة التحضير، السكر، والماء الساخن حتى تتحول إلى رغوة كثيفة وكريمية تشبه حلوى “الدالغونا” الكورية، ثم تُسكب فوق الحليب البارد أو الساخن.
- ما وراء الشهرة؟ ظهرت قهوة الدالغونا وانتشرت كالنار في الهشيم خلال فترة الحجر الصحي العالمية في عام 2020. لم تكن مجرد وصفة، بل كانت طقساً يومياً للكثيرين.
- الجاذبية البصرية (Aesthetics): مظهرها الفاخر الذي يشبه القهوة المقدمة في أرقى المقاهي، مع طبقاتها المتباينة بين الرغوة البنية والحليب الأبيض، جعلها مادة مثالية للتصوير والمشاركة على إنستغرام وتيك توك.
- سهولة التحضير والمكونات: مكوناتها الثلاثة متوفرة في كل منزل تقريباً، مما أزال أي حاجز أمام تجربتها.
- العامل النفسي: في وقت كان العالم يشعر فيه بالعجز والملل، قدمت عملية الخفق اليدوية (أو بالخفاق الكهربائي) إحساساً بالإنجاز والتحكم. كانت نشاطاً بسيطاً يكسر روتين العزل، وتحولت إلى تحدٍ عالمي شارك فيه الملايين.
2. باستا الفيتا والطماطم الكرزية (Baked Feta Pasta): بساطة الطعم المتوسطي
- ما هي؟ وصفة عبقرية في بساطتها. توضع كتلة من جبنة الفيتا في وسط صينية فرن، محاطة بالطماطم الكرزية، الثوم، وزيت الزيتون، ثم تُخبز في الفرن حتى تصبح الجبنة طرية والطماطم متكرملة. بعد ذلك، تُمزج المكونات مع الباستا المسلوقة لتشكل صلصة كريمية غنية بالنكهة.
- ما وراء الشهرة؟ هذه الوصفة، التي popularized بواسطة المدونة الفنلندية Jenni Häyrinen، أثبتت أن الأطباق الفاخرة لا تتطلب بالضرورة خطوات معقدة.
- الحد الأدنى من المجهود: تُعرف هذه الوصفة بـ “وصفة الكسالى” بمودة. فكرة وضع كل شيء في صينية واحدة وترك الفرن يقوم بالعمل الشاق جذابة للغاية في حياتنا المزدحمة.
- انفجار النكهات: المزيج بين ملوحة الفيتا، حلاوة الطماطم المشوية، نكهة الثوم، وثراء زيت الزيتون يخلق توازناً مثالياً في النكهات.
- التأثير على الواقع: بلغت شهرة هذه الوصفة حداً أدى إلى نقص حاد في جبنة الفيتا في المتاجر في فنلندا والولايات المتحدة ودول أخرى. هذا بحد ذاته أصبح خبراً، مما زاد من انتشار الوصفة.
3. “Cloud Bread” (خبز السحاب): خفة الغيوم في مطبخك
- ما هو؟ ليس خبزاً بالمعنى التقليدي، بل هو أقرب إلى حلوى المارينغ. يُصنع من ثلاثة مكونات فقط: بياض البيض، السكر، ونشا الذرة. يتم خفق المزيج حتى يصبح صلباً ولامعاً، ثم يُشكل على هيئة قبة ويُخبز ليصبح خفيفاً وهشاً كالغيوم.
- ما وراء الشهرة؟ يكمن سحر هذا “الخبز” في ملمسه وشكله الفريدين.
- الرضا الحسي (ASMR): صوت تكسير القشرة الخارجية الرقيقة والكشف عن الداخل الطري واللزج كان عاملاً رئيسياً في جاذبية فيديوهات هذه الوصفة.
- إمكانيات التخصيص: أضاف المستخدمون لمساتهم الخاصة، مثل ألوان الطعام لصنع “خبز سحاب” بألوان قوس قزح، أو إضافة نكهات مختلفة، مما جعل كل فيديو فريداً من نوعه.
- وهم الصحة: كونه خالياً من الغلوتين ومنخفض السعرات الحرارية مقارنة بالخبز العادي، جذب شريحة واسعة من المهتمين بالصحة، على الرغم من محتواه العالي من السكر.
تحليل “جينات” الشهرة: لماذا تنجح وصفة وتفشل أخرى؟
إن انتشار وصفة على تيك توك ليس مجرد صدفة. هناك مجموعة من العوامل النفسية والتقنية التي تساهم في هذا النجاح الساحق:
1. علم النفس وراء التريند:
- الجاذبية البصرية الفائقة (Food Porn): يجب أن تكون الوصفة “جميلة” بصرياً. الألوان الزاهية، القوام المثير للاهتمام (مثل مطاطية الجبن أو رغوة القهوة)، والطريقة السينمائية في التقديم هي خطاف الجذب الأول.
- عامل “المفاجأة والدهشة”: الوصفات التي تحتوي على تحول غير متوقع (مثل خفق القهوة لتصبح رغوة، أو تحول مكونات صلبة إلى صلصة كريمية) تثير فضول المشاهد وتجعله يرغب في رؤية النتيجة النهائية.
- البساطة وإمكانية الوصول: يجب أن تكون المكونات سهلة الحصول عليها والخطوات قابلة للتنفيذ من قبل طباخ مبتدئ. هذا يقلل من “عائق الدخول” ويشجع على المشاركة الفورية.
- الإحساس بالإنجاز والمشاركة المجتمعية: عندما يجرب شخص ما وصفة “تريند” وينجح في تحضيرها، فإنه لا يحصل فقط على وجبة لذيذة، بل يشعر بأنه جزء من حركة عالمية. مشاركة صورته أو الفيديو الخاص به هو وسيلة لإعلان “أنا أيضاً فعلتها!”.
2. الخوارزمية والموسيقى:
- قوة الصوت: تيك توك منصة صوتية بصرية. استخدام أغنية “تريند” أو مقطع صوتي شائع مع فيديو الوصفة يزيد بشكل كبير من فرصة وصوله إلى صفحة “For You” لجمهور أوسع.
- تنسيق الفيديو القصير والمكثف: الطبيعة السريعة لفيديوهات تيك توك (عادة أقل من دقيقة) تجبر صانعي المحتوى على تكثيف العملية في خطوات سريعة ومُرضية بصرياً، مع إيقاع متصاعد يصل إلى الكشف النهائي عن الطبق الشهي. هذا التنسيق يسهل استهلاكه ويشجع على إعادة المشاهدة.
- التحديات والـ “Duets”: غالباً ما تتحول الوصفات إلى تحديات (challenges)، حيث يتحدى المستخدمون بعضهم البعض لتجربة الوصفة أو إضافة لمستهم الخاصة. ميزة الـ “Duet” تسمح للمستخدمين بتصوير ردود أفعالهم بجانب الفيديو الأصلي، مما يخلق سلسلة لا تنتهي من المحتوى المرتبط.
مستقبل الطعام على الإنترنت: هل ستستمر الظاهرة؟
من الواضح أن تيك توك قد غير قواعد اللعبة في عالم الطعام. لقد أضفى الطابع الديمقراطي على إنشاء الوصفات، مما سمح لأي شخص لديه هاتف ومطبخ بأن يصبح نجم الطهي التالي. هذه الظاهرة ليست مجرد فقاعة عابرة، بل هي انعكاس لتغير أعمق في كيفية تفاعلنا مع الطعام: أصبحنا نبحث عن الخبرات والتجارب بقدر ما نبحث عن التغذية.
ختاما
فإن وصفات تيك توك التي تنتشر عبر الإنترنت هي أكثر من مجرد تعليمات للطهي. إنها مزيج متقن من علم النفس البشري، والجاذبية البصرية، والبساطة العملية، وقوة الخوارزميات. إنها قصص نجاح رقمية تُروى بالدقيق والسكر والجبن، وتثبت أن الطبق الأكثر شهرة في العالم اليوم قد يكون قد وُلد في مطبخ عادي، وتم تصويره على هاتف ذكي، وشاهده الملايين في أقل من 24 ساعة. والآن، بعد قراءة هذا، ربما حان الوقت لتجربة “التريند” القادم؟
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.