منذ الأزل، والبشر يبحثون عن إجابة للسؤال الأهم: كيف نكون سعداء؟ لقد اعتدنا لفترة طويلة على أن علم النفس هو ذلك المجال الذي يركز على علاج الاضطرابات والمشكلات النفسية، ويساعدنا على الانتقال من حالة المعاناة إلى الحالة الطبيعية. ولكن، ماذا بعد ذلك؟ ماذا عن الانتقال من الحالة الطبيعية إلى حالة الازدهار والرفاهية؟
هنا يأتي دور علم النفس الإيجابي، وهو ليس مجرد أفكار نظرية أو تفاؤل أعمى، بل هو فرع علمي حديث يدرس ما الذي يجعل الحياة جديرة بأن تُعاش. إنه لا يسأل “ما هو الخطأ فيك؟”، بل يطرح السؤال الأجمل: “ما هو الصواب فيك؟ وكيف يمكنك أن تزدهر؟”.
ما هو علم النفس الإيجابي؟
قد يختلط الأمر على البعض، فيظنون أن علم النفس الإيجابي هو ببساطة أن “تفكر بإيجابية” وتتجاهل مشاكلك. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.
أسس هذا العلم الطبيب النفسي الشهير مارتن سليجمان، وعرّفه بأنه “الدراسة العلمية لنقاط القوة والفضائل الإنسانية التي تمكن الأفراد والمجتمعات من الازدهار”.
بكلمات أبسط، علم النفس التقليدي يركز على إصلاح ما هو “مكسور”، أما علم النفس الإيجابي فيركز على بناء ما هو “قوي”. إنه لا ينكر وجود الألم والمعاناة في الحياة، بل يعترف بها ويسعى لتزويدنا بالأدوات النفسية التي تجعلنا أكثر مرونة وقدرة على مواجهة التحديات، وفي نفس الوقت، يعلمنا كيف نلاحظ ونعزز الجوانب المشرقة في حياتنا.
أعمدة السعادة الخمسة: نموذج PERMA
لتسهيل تطبيق هذا العلم، وضع مارتن سليجمان نموذجاً عملياً يسمى “PERMA”، وهو يمثل خمسة أعمدة أساسية يعتمد عليها ازدهار الإنسان. عندما تعمل على تقوية هذه الأعمدة في حياتك، فإنك تبني سعادتك على أساس متين.
1. المشاعر الإيجابية (Positive Emotions)
هذا هو العمود الأكثر شهرة. لا يتعلق الأمر بأن تكون سعيداً طوال الوقت، فهذا غير واقعي. بل يتعلق بتعزيز مشاعر مثل الفرح، الامتنان، الأمل، الإلهام، والحب. عندما نختبر هذه المشاعر بانتظام، تتوسع نظرتنا للحياة ونصبح أكثر إبداعاً وقدرة على حل المشكلات.
- كيف تطبقه؟ خصص دقيقتين كل ليلة لتكتب ثلاثة أشياء سارت على ما يرام خلال يومك وتشعر بالامتنان تجاهها.
2. الاندماج (Engagement)
هل مررت بتجربة كنت فيها منغمساً تماماً في نشاط ما لدرجة أنك نسيت الوقت وشعرت بأنك في أفضل حالاتك؟ هذا ما يسمى بحالة “التدفق” أو الاندماج. يحدث هذا عندما نستخدم أعلى مهاراتنا لمواجهة تحدٍ مناسب.
- كيف تطبقه؟ ابحث عن هواية أو نشاط تحبه (مثل الرسم، العزف، الرياضة، أو حتى عملك) وحاول أن تخصص له وقتاً تمارسه فيه بتركيز كامل، بعيداً عن المشتتات.
3. العلاقات الإيجابية (Relationships)
البشر كائنات اجتماعية بطبعها. إن وجود علاقات قوية وداعمة في حياتنا هو أحد أكبر مصادر السعادة والرضا. هذه العلاقات تمنحنا شعوراً بالانتماء، وتقدم لنا الدعم في الأوقات الصعبة، وتشاركنا أفراحنا.
- كيف تطبقه؟ استثمر وقتاً حقيقياً في علاقاتك المهمة. اتصل بصديق قديم، أو خطط لقضاء وقت ممتع مع عائلتك بدون هواتف.
4. المعنى (Meaning)
الشعور بالمعنى يأتي من إدراك أن حياتك جزء من شيء أكبر منك. يمكن أن يكون هذا “الشيء الأكبر” هو دينك، أو خدمة مجتمعك، أو تربية أطفالك، أو العمل في وظيفة تخدم قضية تؤمن بها. عندما نشعر بأن لحياتنا غاية، فإن هذا يمنحنا دافعاً قوياً لتجاوز الصعوبات.
- كيف تطبقه؟ فكر في القيم الأكثر أهمية بالنسبة لك، وابحث عن طرق لتعيش وفقاً لهذه القيم. قد يكون ذلك من خلال التطوع أو مساعدة الآخرين.
5. الإنجاز (Accomplishment)
تحقيق الأهداف يمنحنا شعوراً بالفخر والكفاءة ويعزز ثقتنا بأنفسنا. لا يجب أن تكون هذه الإنجازات ضخمة، فحتى تحقيق الأهداف الصغيرة يساهم في شعورنا بالرضا. السعي وراء الإنجاز بحد ذاته يمنحنا شعوراً بالتقدم والنمو.
- كيف تطبقه؟ ضع لنفسك أهدافاً صغيرة وواقعية وقابلة للقياس (مثل قراءة 10 صفحات من كتاب كل يوم)، واحتفل بنجاحك عند تحقيقها.
ختاما
في النهاية، يعلمنا علم النفس الإيجابي أن السعادة ليست ضربة حظ أو شيئاً ننتظر حدوثه، بل هي مهارة يمكننا تعلمها وتطويرها بالممارسة المستمرة، تماماً مثلما نتعلم العزف على آلة موسيقية أو ممارسة رياضة جديدة.
إنها لا تعني غياب المشاكل، بل تعني امتلاك القوة الداخلية والمرونة النفسية للتعامل معها، والقدرة على رؤية الجمال والخير في حياتنا حتى في أصعب الظروف. ابدأ اليوم بخطوة صغيرة: اختر أحد أعمدة نموذج “PERMA” وركز على تعزيزه هذا الأسبوع. قد تكون هذه هي بداية رحلتك نحو حياة أكثر ازدهاراً وسعادة حقيقية.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.