تُعد سورة التحريم، وهي سورة مدنية نزلت على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم بعد سورة الحجرات، بمثابة وثيقة هامة تلقي الضوء على جوانب إنسانية في حياة النبي الكريم، وتقدم منهاجًا قويمًا لبناء الأسرة المسلمة، وتضرب أمثلة خالدة للمؤمنين والكافرين.
تتألف السورة من اثنتي عشرة آية، وتأتي في الجزء الثامن والعشرين من المصحف الشريف، تحديدًا بعد سورة الطلاق وقبل سورة الملك. تبدأ السورة الكريمة بأسلوب عتاب رقيق للنبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وفي هذا النداء العظيم، تتجلى بلاغة القرآن الكريم في تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بمكانته كقدوة، مع إظهار الرفق والمحبة في الخطاب.
في هذا المقال، نتعمق في سبب نزول سورة التحريم، ونستكشف محاورها ومضامينها التربوية، ونتطرق إلى المنزلة الرفيعة للسيدة مريم عليها السلام التي خُصت بالذكر في هذه السورة المباركة.
سبب نزول سورة التحريم
اختلف العلماء في تحديد السبب المباشر لنزول سورة التحريم، وتشير الروايات إلى واقعتين محتملتين، تحملان في طياتهما دروسًا وعبرًا للمسلمين:
الرواية الأولى: قصة العسل ورائحة المغافير
يذكر بعض العلماء أن سبب نزول السورة يعود إلى موقف حدث بين النبي صلى الله عليه وسلم وبعض زوجاته. رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها وشرب عندها عسلًا.
اتفقت زوجتاه عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر رضي الله عنهما على أنه إذا دخل عليهن النبي صلى الله عليه وسلم، ستقول إحداهما: “إني أجد منك ريحة مغافير، أكلت مغافير؟” والمغافير هي صمغ ذو رائحة غير مستحبة يخرج من نوع معين من الأشجار. وعندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحداهن، قالت له ما اتفقتا عليه، فأجاب صلى الله عليه وسلم: “لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ ولَنْ أعُودَ له”.
تعتبر هذه القصة، وفقًا لبعض العلماء، هي السبب الرئيسي لنزول سورة التحريم، حيث عاتب الله تعالى نبيه على تحريمه ما أحله الله له إرضاءً لزوجاته.
الرواية الثانية: قصة مارية القبطية وغيرة حفصة
تروي رواية أخرى أن سبب نزول سورة التحريم مرتبط بوجود النبي صلى الله عليه وسلم في بيت زوجته حفصة رضي الله عنها بصحبة زوجته مارية القبطية رضي الله عنها، بينما كانت حفصة تزور والدها عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وعند عودتها، شاهدت مارية في بيتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، فغضبت ولم تدخل البيت حتى خروج مارية. عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ملامح الغيرة والكآبة على وجه حفصة، طلب منها ألا تخبر عائشة رضي الله عنها ووعدها بأنه لن يقرب مارية بعد ذلك.
يرى بعض العلماء أن هذه الواقعة هي سبب نزول السورة، حيث تضمنت تحريم النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه أمرًا مباحًا إرضاءً لزوجته.
والراجح هو الرواية الأولى والله تعالى أعلم، ولكن كلا الروايتين تحملان دروسًا قيمة حول طبيعة العلاقات الإنسانية في بيت النبوة، وعظمة الشريعة الإسلامية التي لم تتوانَ في عتاب النبي الكريم نفسه لتكون عبرة للمسلمين.
محور سورة التحريم
إن سبب نزول سورة التحريم يمهد الطريق لفهم محور السورة الرئيسي، الذي يدور حول تحريم النبي محمد صلى الله عليه وسلم على نفسه شيئًا أحله الله له، وإسراره حديثًا إلى بعض زوجاته. لذلك، استُفتحت السورة بعتاب لطيف من الله تعالى لنبيه الكريم على هذا الفعل.
تتضمن السورة فتح باب التوبة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم مع التهديد بالعقاب في حال الاستمرار على ما كانتا عليه من فعل أدى إلى هذا العتاب. ثم يتوجه الخطاب إلى المؤمنين جميعًا بضرورة إنقاذ أنفسهم وأهليهم من نار جهنم عن طريق طاعة الله تعالى واتباع سنة نبيه الكريم. تؤكد الآيات الكريمة على أهمية التوبة الصادقة قبل فوات الأوان.
علاوة على ذلك، ترسخ سورة التحريم منهجًا قويمًا لحماية الأسرة المسلمة. فمن خلال آياتها، يجد المسلم التوجيهات الربانية في تربية الأبناء وإدارة الحياة الزوجية. لقد أولى الإسلام اهتمامًا بالغًا باستقرار الأسرة، لأنها اللبنة الأساسية في بناء مجتمع إسلامي قوي ومتوازن. فالزواج هو بداية تشكل الأسرة، وكلما كانت هذه البداية قائمة على التقوى والالتزام بتعاليم الله، كلما أنتجت جيلًا واعيًا ومستنيرًا.
تحث السورة على إبقاء المودة والرحمة بين أفراد الأسرة، ولم تخض في تفاصيل القصة التي عاتب الله فيها نبيه، بل وضعت أساسًا صحيحًا للمسلمين في كيفية التعامل داخل الأسرة دون الخوض في خصوصيات الآخرين.
مضامين سورة التحريم
بعد استيعاب سبب نزول سورة التحريم ومحورها، يصبح من الضروري التأمل في مضامينها والدروس المستفادة منها:
- عتاب الحبيب دليل على محبته: إن عتاب الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم على أمر مباح فعله إرضاءً لزوجاته، يدل على عظيم مكانة النبي عند ربه، وأن الله تعالى يوجهه ويرشده حتى في أدق تفاصيل حياته.
- مسؤولية المسلمين عن أسرهم: يأمر الله تعالى المسلمين بحماية أنفسهم وأهليهم من نار جهنم، مما يؤكد على مسؤولية الفرد المسلم تجاه أسرته في تربيتهم على طاعة الله وتجنب المعاصي.
- أهمية التوبة الخالصة: تحث السورة على التوبة النصوح، وتوضح أن الكفار لن تُقبل منهم الأعذار يوم القيامة، مما يؤكد على أهمية المسارعة إلى التوبة في الدنيا.
- حياة النبي صلى الله عليه وسلم كتاب مفتوح: تُبين السورة أن حياة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة هي مصدر للتعلم والاقتداء للمسلمين في جميع جوانب حياتهم.
- مسؤولية أمهات المؤمنين كقدوة: إن عتاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يدل على عظم مسؤوليتهن كأمهات للمؤمنين وقدوة لنساء المسلمين.
- التحكم في الغضب وعدم الحلف في حال الغضب: تستنبط بعض الدروس من سبب النزول حول أهمية التحكم في النفس عند الغضب وعدم اتخاذ قرارات أو حلف أيمان في تلك اللحظات.
- عدم تحريم ما أحل الله: تعلمنا السورة ضرورة الالتزام بما أحله الله وعدم تحريم الطيبات على النفس بغير سبب شرعي.
- عدم الخوض في التفاصيل الدقيقة التي قد تسبب الحرج: إن عدم ذكر تفاصيل القصة التي نزلت بسببها السورة يدل على أهمية عدم الخوض في التفاصيل الدقيقة التي قد تسبب الحرج أو الإساءة للآخرين.
- وجوب جهاد الكفار والمنافقين: تختتم السورة بدعوة لجهاد أهل الكفر والنفاق، مما يؤكد على أهمية الدفاع عن الدين الحق.
- المسؤولية الفردية وضرب الأمثال: تؤكد السورة على أن الإنسان مسؤول عن عمله أمام الله يوم القيامة، ولذلك ضرب الله أمثلة للمؤمنين والكافرين ليكون فيها عبرة، فذكر امرأتي نوح ولوط كمثال للكافرين، وامرأة فرعون كمثال للمؤمنين الذين فضلوا الآخرة على الدنيا وزينتها.
منزلة مريم عليها السلام في سورة التحريم
إن التأمل في سبب نزول سورة التحريم ومقارنته بسورة الأنبياء يكشف عن دقة القرآن الكريم في اختيار الألفاظ والسياقات عند ذكر السيدة مريم عليها السلام. ففي سورة الأنبياء، لم تُذكر أم عيسى عليه السلام باسمها الصريح، بل وُصفت بقوله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}. أما في سورة التحريم، فقد ذُكرت باسمها صريحًا في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}.
يُرجع العلماء هذا الاختلاف في الذكر إلى سياق الحديث في كلتا السورتين. فسورة الأنبياء كان سياقها العام عن الأنبياء الكرام مثل إبراهيم ولوط وموسى وزكريا ويحيى عليهم السلام، ولم يُذكر اسم مريم عليها السلام لأنها ليست نبية. أما في سورة التحريم، فكان سياق الحديث عن النساء، حيث ذُكرت امرأتا نوح ولوط كمثال للكفر، ثم ذُكرت امرأة فرعون ومريم ابنة عمران كمثالين للإيمان والتقوى.
إن ذكر مريم عليها السلام في سورة التحريم باسمها وثناء الله عليها يدل على منزلتها الرفيعة ومكانتها العظيمة بين نساء العالمين. فهي مع الأنبياء أقل منهم منزلة، ولكنها مع النساء أعلى منهن قدرًا. لقد ضرب الله بها المثل للمؤمنين، لثباتها على إيمانها وعفتها وطهارتها، ورفضها لزخارف الدنيا وطلبها للنعيم الأبدي عند الله تعالى.
لقد واجهت عليها السلام الكثير من الصعاب والابتلاءات، ولكنها صبرت واحتسبت ولجأت إلى الله، فكانت بحق من أفضل نساء العالمين وقدوة حسنة للمؤمنات على مر العصور.
ختامًا
تبقى سورة التحريم نبراسًا يضيء لنا جوانب مهمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي بناء الأسرة المسلمة. إن فهم سبب نزولها ومحاورها ومضامينها يقودنا إلى تدبر عميق في حكمة الشريعة الإسلامية وجمال توجيهاتها. كما أن ذكر السيدة مريم عليها السلام في هذه السورة يرفع من قدرها ويجعلها مثالًا يحتذى به في الإيمان والصبر والتوكل على الله تعالى. نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذين يتدبرون آيات كتابه ويعملون بها.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.