ما هي نظرية الفوضى؟

ما هي نظرية الفوضى؟ لطالما ترسخ في أذهاننا ارتباطٌ وثيقٌ بين العلم والنظام، حيث نتصوره ككيانٍ قائمٍ على ترتيبٍ دقيقٍ ومنهجيٍّ للمصطلحات والمفاهيم التي تفسر الظواهر الطبيعية في تسلسلٍ منطقيٍّ مُحكم.

هذا التصور يجعلنا نتساءل: هل من الممكن أن يتناول العلماء نظريةً تحمل اسمًا يبدو مُناقضًا تمامًا لهذه الصورة النمطية، ألا وهي “نظرية الفوضى”؟ هذا التساؤل يفتح الباب أمام استكشاف كيف يمكن للعلم أن يتعامل مع مفهومٍ يبدو ظاهريًا مُنافيًا للنظام والترتيب، وكيف يمكن أن تُساهم دراسة الفوضى في فهم جوانب جديدة من الكون والطبيعة.

تُعدّ نظرية الفوضى مجالًا رياضيًا مُتشعبًا، يمتد أحيانًا ليشمل جوانب من علم الميكانيكا، وهي تُعنى بشكل أساسي بدراسة وتحليل الخصائص المُعقدة للأنظمة الحتمية، وهي تلك الأنظمة التي يتحدد سلوكها بشكل كامل بناءً على مجموعة من الشروط الابتدائية التي تُحكمها.

هذا الاعتماد الحاسم على الشروط الابتدائية يجعل دراسة هذه الأنظمة أمرًا بالغ التعقيد، ويُشكل تحديًا كبيرًا عند محاولة فهمها وتحليلها باستخدام الأدوات والأساليب الرياضية التقليدية. وللتغلب على هذا التحدي، يلجأ الرياضيون إلى استخدام نظرية الفوضى كأداة قوية لنمذجة هذه الأنظمة المعقدة بطرق رياضية مُبتكرة ومتنوعة.

الهدف الأساسي من هذه النمذجة هو الوصول إلى توصيف رياضي دقيق وشامل لهذه الأنظمة، بحيث يُمكن من خلال هذا التوصيف فهم سلوكها بشكل مُفصل، والتنبؤ بتطورها المستقبلي بدقة، وذلك بالاعتماد على دراسة وتحليل كافة الشروط الابتدائية المُمكنة التي يُمكن أن تؤثر على سلوك هذه الأنظمة.

نشأت نظرية الفوضى كثمرة لجهود متراكمة لعدد من العلماء عبر التاريخ، حيث يصعب إرجاعها إلى شخص واحد تحديدًا، فهي نتاج عمل رياضي فيزيائي معقد ومتشابك. ومع ذلك، يمكن تتبع جذورها وصولًا إلى بداياتها. تعود الشرارة الأولى إلى معادلات إسحاق نيوتن التي وضعها لوصف حركة الكواكب ومداراتها في النظام الشمسي.

اعتمد نيوتن في حل معادلاته التفاضلية على افتراض شروط ابتدائية محددة، مما أوصله إلى مجموعة من الحلول والرسومات البيانية التي تفسر حركة الكواكب ومداراتها. في مطلع القرن العشرين، تحديدًا في عام 1900، قام عالم الرياضيات الفرنسي الشهير هنري بوانكاريه بإعادة دراسة حركة الكواكب ومداراتها، لكنه اتبع نهجًا مختلفًا عن نيوتن، حيث قام بتغيير بسيط في الشروط الابتدائية التي اعتمدها نيوتن في حل معادلاته.

كانت المفاجأة الكبرى هي اختلاف النتائج التي توصل إليها بوانكاريه بشكل جذري عن نتائج نيوتن. من خلال إجراء تغييرات متتالية في الشروط الابتدائية لحركة الكواكب، اكتشف بوانكاريه أن كل تغيير بسيط يؤدي إلى نتيجة جديدة مختلفة تمامًا ولا يمكن التنبؤ بها بشكل دقيق، مما جعل الكثيرين يعتبرونه المؤسس الفعلي لنظرية الفوضى، رغم أن النظرية شهدت تطورات كبيرة بعده، إلا أنه يُعدّ صاحب الشرارة الأولى التي أطلقت هذا العلم.

وفي مرحلة لاحقة، تحديدًا في عام 1961، قام عالم المناخ إدوارد لورنز بصياغة مصطلح “نظرية الفوضى” بشكل رسمي، لكن هذه المرة لم ينصب تركيزه على الكواكب، بل على دراسة أنظمة الطقس والمناخ. لاحظ لورنز أن نتائج التنبؤات الجوية تتباين بشكل كبير عند استخدام رقمين عشريين مقارنة باستخدام أربعة أو ستة أرقام بعد الفاصلة.

من خلال دراسته لأنظمة الطقس وتأثير الفوضى عليها، توصل لورنز إلى جملته الشهيرة التي أصبحت فيما بعد رمزًا للنظرية: “هل يمكن لحركة أجنحة فراشة في البرازيل أن تُحدث إعصارًا في ولاية تكساس؟”، ومن هنا انتشرت نظرية الفوضى بين عامة الناس تحت مُسمى “تأثير الفراشة”، الذي يوضح كيف أن تغييرًا طفيفًا في نقطة البداية يمكن أن يؤدي إلى نتائج كارثية أو مختلفة تمامًا على المدى البعيد.

يبدو طرح فكرة أن الفراشة قد تسبب إعصارًا على بعد آلاف الكيلو مترات طرحًا سخيفًا وسطحيًا للوهلة الأولى، إلا أنه لم يقصد حرفيًا، حيث إنّ الهدف من هذا التعبير الذي أطلقه إدوارد لورنز كان أن يؤكد أن التغييرات البسيطة جدًا في بعض الحسابات والنماذج الرياضية قد تحدث تغييرات كبيرة وغير متوقعةٍ.

رغم التعقيد الرياضي الذي يراه البعض في نظرية الفوضى إلا أنها تدخل في العديد من التطبيقات في الفيزياء والعلوم الاجتماعية والإدارية مثل السياسة والأعمال والاقتصاد، وعلى الرغم من أن تطبيق تلك النظرية في عالم الإدارة والأعمال لايزال في بداياته، إلا أن المختصين في هذه النظرية يحددون بعض القواعد لرجال الأعمال اعتمادًا على دراستهم للنظرية منها:

  • تؤكد نظرية الفوضى أنه من الأجدى للشركات أن تدرس وتتنبأ بالنتائج المتعددة الممكنة والتي تنتج من تغير شروط الأسواق بدلًا من التنبؤ بالنتائج المستقبلية على المدى البعيد والتي تتطلب دراسة مضنية لأنظمة لاخطية لمعرفة سلوكها المستقبلي.
  • تذكر النظرية المدراء وأصحاب الأعمال أن التغييرات الصغيرة في شروط البداية قد تؤدي إلى نتائجٍ مختلفةٍ بشكلٍ كبيرٍ في النهاية اعتمادًا على مبدأ حساسية النظم الاقتصادية لشروط البدء.
  • تفترض نظرية الفوضى وجود ترتيب ما للأحداث العشوائية، يمكن لدراسة هذا الترتيب أن يساعد الشركات باتخاذ بعض القرارات على المدى القصير.
  • نتيجة دراسة نظرية الفوضى للأنظمة المعقدة والغير قابلةٍ للتنبؤ بسهولة مثل أسواق المال مثلًا فقد تسمح لرجال الأعمال والمدراء بامتلاك رؤية عامة عن كيفية مواجهة التغيرات المستقبلية والتعامل معها بالطريق الأمثل.

اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية