مراجعة “البؤساء” لفيكتور هوغو: لماذا تظل تحفة فنية تهز القلوب؟

هناك كتب تقرأها، وهناك كتب تعيشها. رواية “البؤساء” للكاتب الفرنسي العظيم فيكتور هوغو تنتمي بكل تأكيد إلى النوع الثاني. منذ نشرها لأول مرة عام 1862، لم تتوقف هذه الملحمة الإنسانية عن لمس قلوب الملايين حول العالم، وتحولت إلى مسرحيات غنائية وأفلام سينمائية لا تُنسى. لكن ما هو سر هذا الخلود؟

الجواب بسيط: “البؤساء” ليست مجرد قصة عن رجل يطارده ماضيه، بل هي لوحة جدارية ضخمة ترسم المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر بكل تناقضاته، وتطرح أسئلة خالدة حول العدالة، والرحمة، والتضحية، وقدرة الإنسان على التغير.

قلب الرواية النابض هو شخصية جان فالجان، وهو الدليل الأكبر على فكرة الرواية الأساسية: لا يوجد إنسان لا يمكن إصلاحه.

  • الإثبات من القصة: تبدأ حكاية فالجان بجريمة بسيطة، وهي سرقة رغيف خبز لإطعام أخته الجائعة. لكن المجتمع، ممثلاً في القانون، يحكم عليه بعقوبة قاسية تمتد لتسعة عشر عامًا من الأشغال الشاقة. يخرج فالجان من السجن رجلاً محطمًا، يحمل في قلبه كرهًا للعالم الذي ظلمه.
  • نقطة التحول: الدليل المحوري على إمكانية الخلاص يأتي في مشهد لقائه بالأسقف ميريل. عندما يسرق فالجان أواني الفضة من الأسقف الذي استضافه، ويتم القبض عليه، يفاجئه الأسقف بقوله للشرطة: “لقد أعطيتها له، بل لقد نسي الشمعدانين الفضيين أيضًا”. هذه اللحظة من الرحمة غير المشروطة هي الشرارة التي تعيد إحياء إنسانية فالجان. يقول الأسقف له: “لقد اشتريت روحك بهذه الفضة، ووعدتني بأن تصبح رجلاً صالحًا”. ومن هنا، تبدأ رحلة فالجان الطويلة ليحيا حياة جديدة مليئة بالخير، متنكرًا من ماضيه، ومكرسًا حياته لمساعدة الآخرين.

لكل بطل غريم، وغريم فالجان هو المفتش جافير، وهو يمثل النقيض التام لفكرة الرحمة. جافير هو تجسيد للقانون الصارم الذي لا يعرف إلا الأبيض والأسود.

  • الإثبات من شخصيته: وُلد جافير في السجن، لذلك قضى حياته كلها يحاول أن يكون على الجانب الآخر من القانون. بالنسبة له، المجرم يبقى مجرمًا إلى الأبد، ولا وجود لشيء اسمه التوبة أو التغيير. إيمانه بالقانون مطلق، وهو لا يطارد فالجان بدافع شخصي، بل لأنه يرى في ذلك واجبه المقدس. هو يقول: “هناك نوعان فقط من الرجال: الصالحون والأشرار”.
  • نهاية الفكرة: الدليل الأقوى على فشل هذه النظرة القاسية للحياة يأتي في نهاية جافير المأساوية. عندما ينقذ فالجان حياة جافير ويطلق سراحه بدلاً من قتله، ينهار عالم جافير بأكمله. للمرة الأولى، يواجه موقفًا لا يمكن لمنطقه الصارم أن يستوعبه: مجرم يظهر رحمة تفوق رحمة القانون نفسه. هذا الصراع الداخلي يدفعه إلى الانتحار، في إثبات من هوغو على أن القانون بدون رحمة هو طريق مسدود يؤدي إلى الدمار.

لم يطلق هوغو على روايته اسم “البؤساء” عبثًا. لقد أراد أن يسلط الضوء على معاناة الفقراء والمهمشين الذين يسحقهم المجتمع بلا رحمة.

  • الإثبات من قصتهما: فانتين هي الدليل الأوضح على هذا الظلم. إنها عاملة بسيطة تُطرد من عملها لمجرد أنها أم عزباء. يدفعها الفقر المدقع إلى بيع شعرها، ثم أسنانها، وفي النهاية جسدها، كل ذلك من أجل توفير المال لابنتها كوزيت. قصتها هي صرخة احتجاج ضد مجتمع يعاقب الضحية. أما كوزيت، التي تعيش طفولة بائسة تحت رحمة عائلة تيناردييه الجشعة، فهي تمثل براءة الطفولة التي يسحقها الجهل والفقر.

هذه الشخصيات ليست مجرد أدوات في القصة، بل هي حجة فيكتور هوغو القوية بأن الفقر ليس خطيئة الفرد، بل هو نتيجة لظلم اجتماعي كبير.

تدور أحداث جزء كبير من الرواية على خلفية تاريخية حقيقية، وهي ثورة يونيو 1832 في باريس.

  • الإثبات من الأحداث: يستخدم هوغو هذه الثورة كمسرح لعرض تطلعات جيل جديد من الشباب، مثل ماريوس وأنجولراس، الذين يحلمون بفرنسا أكثر عدلاً وحرية. على الرغم من أن ثورتهم محكوم عليها بالفشل، إلا أن شجاعتهم وتضحياتهم تمثل الأمل في قلب اليأس. إنها تثبت أن حتى في أحلك الظروف، هناك دائمًا من هو على استعداد للقتال من أجل مستقبل أفضل.

في النهاية، “البؤساء” هي أكثر من مجرد قصة تاريخية. إنها ملحمة إنسانية خالدة لأن الأسئلة التي تطرحها لا تزال أسئلتنا حتى اليوم. ما هي العدالة الحقيقية؟ هل القانون دائمًا على حق؟ هل يمكن للرحمة أن تغير مصير إنسان؟ وهل لدينا مسؤولية تجاه البؤساء في مجتمعاتنا؟

تثبت لنا رواية فيكتور هوغو أن الأدب العظيم لا يقدم إجابات سهلة، بل يدفعنا للتفكير بعمق في إنسانيتنا المشتركة. ولهذا السبب، بعد أكثر من 160 عامًا، لا يزال صوت جان فالجان وصراعه من أجل الخير يتردد بقوة، مذكرًا إيانا بأن شمعة واحدة من الرحمة يمكن أن تضيء أحلك الظلمات.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية