من هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس: 62). هذه الآية تصف مكانة رفيعة ومنزلة سامية، حالة من السلام النفسي والأمان المطلق الذي يطمح إليه كل إنسان. ولكن، من هم هؤلاء “الأولياء” الذين وعدهم الله بهذا الفوز العظيم؟ هل هم فئة خاصة من الناس بقدرات خارقة، أم أن هذا الشرف متاح لكل من يسعى إليه بصدق؟

الجواب لا نجده في الأقاويل أو الخرافات، بل في كلام الله نفسه. لقد وضع لنا القرآن الكريم خريطة طريق واضحة، ووصفاً دقيقاً لصفات أوليائه. في هذا المقال، سنتدبر معاً آيات الذكر الحكيم لنكتشف من هم أولياء الله، وكيف يمكننا أن نسير على خطاهم لننال شرف القرب منه والأمان في كنفه.

قبل الخوض في تفاصيل الأعمال، يضع القرآن الكريم شرطين أساسيين لا غنى عنهما لنيل ولاية الله، وهما حجر الزاوية لكل الصفات الأخرى. يكمل الله وصف أوليائه في سورة يونس فيقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ (يونس: 63).

  1. الإيمان الصادق: ليس مجرد كلمة تُقال باللسان، بل هو إيمان راسخ في القلب بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، إيمان يغير نظرتك للحياة ويصبح بوصلة توجه كل قراراتك.
  2. التقوى المستمرة: التقوى هي درع المؤمن، وهي حالة من الوعي والحذر تجعلك تجعل بينك وبين غضب الله وقاية. إنها ليست مجرد اجتناب للمحرمات، بل هي فعل للطاعات وسعي دائم لمرضاة الله في السر والعلن. وكما جاء في الآية ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾، فإنها صفة ملازمة لهم، أصبحت جزءاً من حياتهم.

هذان الشرطان هما المنطلق، ومنهما تتفرع كل الأعمال الصالحة التي تميز أولياء الله.

لقد ذكر الله عز وجل عبارة ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ في مواضع متعددة في القرآن، وفي كل مرة كان يربطها بصفة أو عمل معين، وكأنه يرسم لنا لوحة متكاملة لشخصية ولي الله. لنتتبع هذه الصفات:

1. اتباع هدى الله

﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 38). أولياء الله لا يتبعون أهواءهم، بل يسلمون قيادهم لهدى الله المتمثل في كتبه ورسله. حياتهم تسير وفق المنهج الذي ارتضاه لهم خالقهم، فهم يجدون فيه النور والأمان.

2. الاستسلام الكامل لله مع الإحسان

﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 112). المعنى هنا عميق، “أسلم وجهه لله” أي أخلص كل توجهه وقصده لله وحده. وشرط هذا الاستسلام أن يكون مقترناً بـ “الإحسان”، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، وأن تحسن إلى خلقه، فتجمع بين صلاح علاقتك بالخالق وصلاح علاقتك بالمخلوق.

3. إقامة أركان الدين (الصلاة والزكاة)

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 277). لا يكتفي ولي الله بالإيمان القلبي، بل يترجمه إلى عمل ظاهر، وأعظم هذه الأعمال هي إقامة الصلاة التي تصله بربه، وإيتاء الزكاة التي تطهر ماله وتصله بمجتمعه.

4. الإنفاق في سبيل الله بإخلاص

﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ (البقرة: 262). يتميز أولياء الله بالكرم والعطاء، لكن عطاءهم ليس للمباهاة أو لكسب الشكر. إنهم ينفقون لوجه الله، ويحرصون على ألا يفسدوا صدقاتهم بـ “المنّ” (تذكير المتصدق عليه بالفضل) أو “الأذى” (إحراجه أو جرح مشاعره).

5. الإصلاح في الأرض

﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأنعام: 48). ولاية الله ليست انعزالاً عن الناس، بل هي دور فاعل في المجتمع. ولي الله شخص إيجابي، يسعى للإصلاح بين الناس، وإصلاح نفسه، ونشر الخير حيثما حل.

6. الاستقامة على الحق

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأحقاف: 13). الاستقامة هي الثبات على طريق الحق دون انحراف أو تردد. هي ليست حماسة مؤقتة، بل التزام دائم بمنهج الله في السراء والضراء، والشدة والرخاء.

بعد استعراض هذه الصفات القرآنية، يتضح لنا أن “ولاية الله” ليست لقباً غامضاً أو سراً يختص به أفراد قلائل، بل هي منزلة شريفة لها معايير واضحة ومسار محدد.

هذه الآيات هي بمثابة مرآة يجب على كل مؤمن أن يعرض نفسه عليها. لا يكفي أن نظن في أنفسنا الصلاح، بل يجب أن نقيس حالنا وأعمالنا بهذه المقاييس الربانية. هل نحن ممن يتبعون هدى الله؟ هل أسلمنا وجوهنا له ونحن محسنون؟ هل نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة وننفق بإخلاص؟ هل نسعى للإصلاح ونستقيم على أمره؟

إن الإجابة الصادقة على هذه الأسئلة هي التي تحدد مدى قربنا من هذه المنزلة العظيمة. والجميل في الأمر أن الباب مفتوح، والطريق متاح لكل من أراد أن يكون من أولياء الله. إنها رحلة تبدأ بالإيمان الصادق، وتستمر بالتقوى والعمل الصالح، وغايتها الفوز العظيم: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾، وحياة لا خوف فيها ولا حزن.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليق واحد

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية