من هو حاتم الطائي؟ قصة أكرم العرب الذي لا يزال حياً في الذاكرة

عندما تُذكر المروءة والشهامة، وعندما يُضرب المثل في الجود والعطاء، يبرز اسم واحد في ذاكرة العرب على مر العصور، اسم أصبح مرادفاً للكرم الذي لا يعرف حدوداً، إنه حاتم الطائي. لم يكن حاتم مجرد رجل ثري يوزع ماله، بل كان ظاهرة إنسانية فريدة، وفارساً نبيلاً، وشاعراً فذاً، جعل من حياته كلها قصيدة في كرم الأخلاق وعزة النفس. فمن هو هذا الرجل الذي تحولت قصصه إلى أساطير، وبات اسمه مقياساً يُقاس به الكرم حتى يومنا هذا؟

هذا المقال هو رحلة في أعماق الصحراء العربية، لاستكشاف سيرة حياة أكرم العرب، والغوص في قصصه المذهلة التي خلدت ذكراه، وفهم كيف استطاع رجل عاش في العصر الجاهلي أن يترك إرثاً أخلاقياً لا يزال يضيء دروبنا.

هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي، أحد أبرز الشخصيات في فترة ما قبل الإسلام (العصر الجاهلي)، عاش في القرن السادس الميلادي. ينتمي إلى قبيلة طيء العريقة، التي كانت تستوطن جبال أجا وسلمى في منطقة حائل شمال نجد (في المملكة العربية السعودية حالياً)، وهي منطقة اشتهرت بكونها محطة على طرق القوافل، مما عزز من أهمية قيم الضيافة وحماية المستجير.

لم يكن حاتم مجرد سيد في قومه، بل كان فارساً شجاعاً وشاعراً مجيداً، لكن السمة التي طغت على كل صفاته الأخرى وجعلته خالداً هي الكرم. لم يكن كرمه تصنعاً أو سعياً وراء السمعة، بل كان فطرة متجذرة في نفسه، وفلسفة حياة يؤمن بها ويمارسها في حله وترحاله، في غناه وحتى في فقره.

لكي نفهم شخصية حاتم، لا بد من النظر إلى البيئة التي شكلته. قسوة الحياة في الصحراء العربية فرضت على أهلها نوعاً من التكافل الاجتماعي، حيث كان إكرام الضيف وإغاثة الملهوف ضرورة للبقاء. لكن حاتم تجاوز هذا المفهوم التقليدي للكرم ليحوله إلى أقصى درجات الإيثار.

ويُقال إن هذا النبع الفياض من العطاء ورثه عن أمه، عتبة بنت عفيف الطائية، التي كانت هي الأخرى معروفة بكرمها المفرط الذي أثار حيرة أهلها. تروي القصص أن جد حاتم لأبيه حاول “علاجها” من هذا الكرم، فعهد إليها بقطيع من الإبل لترعاه بعيداً عن الناس، على أمل أن تتعلم الحرص. لكن عندما مر بها سائلون يطلبون العون، لم تتردد لحظة في أن تهبهم القطيع كاملاً، وعادت قائلة: “يا أبتِ، لقد طوقتك طوق المجد الذي لن يزول!”. أدرك جد حاتم حينها أن هذا الكرم ليس داءً، بل هو طبع أصيل لا يمكن تغييره، وهو الطبع ذاته الذي تجلى في ابنه حاتم بأبهى صوره.

إن القصص التي تروى عن كرم حاتم الطائي هي جوهر شهرته. كل قصة منها تمثل درساً في الإيثار والتضحية.

قصة فرسه الشهيرة:

تعتبر هذه القصة أشهر ما يروى عن حاتم، وتلخص فلسفته في الحياة. في عام من أعوام القحط الشديد، جاء إلى حاتم وفد من قبل قيصر بيزنطة (ملك الروم)، وكانوا قد سمعوا عن كرمه الأسطوري، وعن فرسه الأصيل الذي كان أحب شيء إلى قلبه. أرسلهم القيصر ليختبروا حاتم ويطلبوا منه الفرس.

عندما وصل الوفد إلى ديار حاتم، استقبلهم بحفاوة بالغة، لكنه لم يجد في بيته ما يقدمه لهم من طعام بسبب الجوع الذي عم البلاد. وفي ليلة شديدة البرودة، لم يجد حاتم حلاً لإكرام ضيوفه سوى أن يضحي بأثمن ما يملك. ذهب إلى فرسه، الذي كان يعتبره رمزاً لفروسيته وعزته، فذبحه وأشعل النار وأعد لهم وليمة فاخرة.

بعد أن أكلوا وشبعوا، سألوه عن الفرس الذي أتوا من أجله. فأجابهم بحسرة: “لقد أكلتموه! أتاني الضيف وليس عندي ما أقريه، فذبحته لكم”. أصيب الوفد بالدهشة والذهول، كيف لرجل أن يذبح كنزه الوحيد من أجل ضيوف لا يعرفهم؟ عادوا إلى قيصر يروون له ما رأوا، فقال قولته الشهيرة: “لقد فعل ما هو أهل له”. هذه القصة تظهر أن كرم حاتم لم يكن عطاءً من فائض، بل كان تضحية بأعز ما يملك.

ليلة الضيف البارد:

في ليلة شاتية قارسة، كان حاتم جالساً مع أهله، فرأى ناراً تلوح من بعيد. فقال لغلامه: “اذهب إلى تلك النار، فإن رأيت أهلها بحاجة فأتني بهم”. عاد الغلام ليخبره أنهم أيتام فقراء يرتجفون من البرد والجوع. لم يكتفِ حاتم بإرسال الطعام لهم، بل قام بنفسه وذهب إليهم، وقسم عليهم قطيعه من الغنم قائلاً: “شأنكم وإياها، فإني رأيت وجوهاً لن أسألها عن حاجتها”. لقد كان كرمه استباقياً، يشعر بحاجة المحتاج قبل أن ينطق بها.

لم يكن حاتم كريماً بماله فقط، بل كان كريماً بشعره أيضاً. كان شعره مرآة تعكس قيمه ومبادئه، وديوانه الشعري هو دستور الكرم والمروءة العربية. استخدم الشعر كوسيلة لترسيخ هذه القيم في مجتمعه، فكانت قصائده دعوات صريحة للعطاء والشهامة. من أشهر أبياته التي تجسد فلسفته:

أَوقِد فَإِنَّ اللَيلَ لَيلٌ قَرُّ

وَالريحَ يا مُوقِدُ ريحٌ صِرُّ

عَسى يَرى نارَكَ مَن يَمُرُّ

إِن جَلَبت ضَيفاً فَأَنتَ حُرُّ

في هذه الأبيات، يأمر غلامه بإشعال النار في الليلة الباردة ليس للتدفئة فقط، بل لتكون منارة تهدي الضيوف والمسافرين التائهين إلى مكان آمن وطعام دافئ. ثم يعده بالحرية إن نجح في جلب ضيف، محفزاً إياه على فعل الخير.

أعظم ما يدل على قيمة حاتم هو أن سمعته الطيبة كانت سبباً في نجاة أبنائه بعد وفاته. عندما ظهر الإسلام وبدأت جيوش المسلمين بالانتشار، هرب ابنه عدي بن حاتم، بينما وقعت أخته سفانة بنت حاتم في الأسر.

عندما مثلت سفانة أمام النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقفت بشجاعة وقالت: “يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومه، كان يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويفشي السلام، ويطعم الطعام، وما أتاه أحد في حاجة فرده خائباً. أنا ابنة حاتم الطائي”.

تأثر النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها وبسيرة أبيها العطرة، فقال: “يا جارية، هذه صفة المؤمن حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه. خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق”. لم يكتفِ بإطلاق سراحها، بل أكرمها وأعطاها ما يعينها على العودة إلى أهلها. كانت هذه المعاملة النبيلة سبباً في عودة أخيها عدي، الذي تأثر بموقف النبي، فقدم عليه وأعلن إسلامه ليصبح من خيرة الصحابة.

لم يكن حاتم الطائي مجرد شخصية تاريخية، بل أصبح فكرة ورمزاً. تحول اسمه إلى مضرب للأمثال، فإذا أراد العرب أن يصفوا شخصاً بقمة الكرم قالوا: “أكرم من حاتم”.

إن قصة حاتم الطائي هي تذكير خالد بأن القيمة الحقيقية للإنسان لا تكمن فيما يملكه ويجمعه، بل فيما يعطيه ويقدمه للآخرين. لقد أثبت أن الكرم ليس مجرد فعل، بل هو موقف من الحياة، وأن السمعة الطيبة هي الإرث الحقيقي الذي لا يفنى. وبعد مرور أكثر من 1500 عام، لا تزال نار حاتم الطائي متقدة في الذاكرة، لا لتدفئ ضيوفه فحسب، بل لتضيء لنا دروب الإنسانية ومكارم الأخلاق.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية