تظل سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم منارة إنسانية فريدة، لم يقتصر تأثيرها على أتباع رسالته فحسب، بل امتد ليشمل مفكرين وفلاسفة وقادة رأي من مختلف الثقافات والخلفيات الدينية عبر العصور.
إن شهادات غير المسلمين عن النبي محمد ﷺ تحمل أهمية خاصة، فهي تقدم منظورًا خارجيًا، غالبًا ما يتسم بالموضوعية والبحث عن الحقيقة المجردة، لشخصية استطاعت أن تغير مجرى التاريخ وتؤسس حضارة أضاءت جوانب واسعة من العالم. هذه الأقوال التي خلدها التاريخ ليست مجرد كلمات إعجاب عابرة، بل هي نتاج دراسة وتأمل عميقين في حياة رجل استثنائي وإرثه العظيم.
في هذا المقال، سنبحر في رحاب الفكر العالمي، لنتوقف عند بعض من أجمل ما قيل عن النبي ﷺ من غير المسلمين. سنستعرض شهادات تاريخية من مفكرين وفلاسفة عالميين، ونحلل كيف رأوا في شخصيته ﷺ نموذجًا للقيادة، والإصلاح، والحكمة، والإنسانية. إنها كلمات تكشف عن عظمة النبي محمد ﷺ في عيون الغرب والمفكرين من مختلف الأصقاع، وتؤكد على تأثيره التاريخي الذي لا يزال يتردد صداه حتى يومنا هذا.
عبقرية النبي ﷺ القيادية والمشرّعة في عيون المفكرين
لم تكن قيادة النبي محمد ﷺ مجرد زعامة سياسية أو عسكرية، بل كانت قيادة شاملة استطاعت أن تبني أمة وتضع أسسًا تشريعية وحضارية لا تزال موضع دراسة وإعجاب.
- ألفونس دي لامارتين (Alphonse de Lamartine) (1790 – 1869م)
الشاعر والكاتب والسياسي الفرنسي الشهير، قدم في كتابه “تاريخ تركيا” (Histoire de la Turquie) تقييمًا شاملاً لشخصية النبي محمد ﷺ، يُعتبر من أكثر الشهادات الغربية إنصافًا وتأثيرًا. يقول لامارتين:
“إذا كانت الضوابط التي نقيس بها عبقرية الإنسان هي سمو الغاية والنتائج المذهلة رغم قلة الوسيلة، فمن ذا الذي يجرؤ أن يقارن أيًّا من عظماء التاريخ الحديث بالنبي محمد ﷺ في عبقريته؟ هؤلاء المشاهير صنعوا الأسلحة وسنوا القوانين وأسسوا الإمبراطوريات. فلم يجنوا إلا أمجادًا بالية لم تلبث أن تحطمت بين ظهرانَيْهم. لكن هذا الرجل محمد ﷺ لم يقد الجيوش ويسن التشريعات ويقم الإمبراطوريات ويحكم الشعوب ويروض الحكام فقط، وإنما قاد الملايين من الناس فيما كان يعد ثلث العالم حينئذ. ليس هذا فقط، بل إنه قضى على الأنصاب والأزلام والأديان والأفكار والمعتقدات الباطلة… إن هذا الفيلسوف، الخطيب، النبي، المشرع، المحارب، قاهر الأهواء، مؤسس المذاهب الفكرية التي تدعو إلى عبادة حقة، بلا أنصاب ولا أزلام، هذا هو محمد ﷺ. بالنظر إلى كل مقاييس العظمة البشرية، أود أن أتساءل: هل هناك من هو أعظم من النبي محمد ﷺ؟”
تحليل لامارتين لا يقتصر على جانب واحد من شخصية النبي ﷺ، بل يشمل أبعادها المتعددة كقائد عسكري، ومشرع، ومفكر، ومصلح ديني واجتماعي. إنه يرى في إنجازاته ﷺ، التي تحققت بوسائل بسيطة نسبيًا، دليلاً على عبقرية فذة لا مثيل لها.
- مايكل هارت (Michael H. Hart) (وُلد 1932م)
الفيزيائي الفلكي والمؤرخ الأمريكي، في كتابه الشهير “الخالدون المئة: ترتيب لأكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ” (The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History)، وضع النبي محمدًا ﷺ على رأس قائمته، متقدمًا على شخصيات مثل إسحاق نيوتن وعيسى عليه السلام. يبرر هارت اختياره قائلاً:
“إن اختياري لمحمد ﷺ ليتصدر قائمة أكثر الأشخاص تأثيرًا في العالم قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه آخرون، ولكنني أعتقد أنه الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح بشكل مطلق على المستويين الديني والدنيوي… إن هذا الاتحاد الفريد الذي لا نظير له بين الدين والدنيا هو الذي أرى أنه جعل محمدًا ﷺ أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ البشرية.”
يركز هارت على التأثير العملي والملموس للنبي محمد ﷺ، وقدرته على تأسيس دين ودولة في آن واحد، وتحقيق نجاح باهر في كلا المجالين، وهو ما يعتبره فريدًا في التاريخ.
النبي ﷺ المصلح الاجتماعي والأخلاقي في كتاباتهم
تجاوز تأثير النبي محمد ﷺ الجوانب السياسية والعسكرية، ليشمل إصلاحات اجتماعية وأخلاقية عميقة أثرت في حياة الملايين.
- جورج برنارد شو (George Bernard Shaw) (1856 – 1950م)
الكاتب المسرحي والناقد الإيرلندي الشهير، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، يُنسب إليه قول مشهور (على الرغم من أن توثيقه الدقيق محل نقاش، إلا أنه متداول على نطاق واسع ويعكس تقديرًا عامًا لشخصية النبي ﷺ في بعض الأوساط الفكرية الغربية):
“لقد درستُ الرجل الرائع محمدًا ﷺ، وفي رأيي، إنه أبعد ما يكون عن كونه ضد المسيح، بل يجب أن يُدعى منقذ البشرية. إنني أعتقد أنه لو تولى رجل مثله حكم العالم الحديث، لنجح في حل مشكلاته بطريقة تجلب السلام والسعادة التي تحتاجها البشرية بشدة… إن دين محمد ﷺ سيسود العالم لانسجامه مع العقل والعلم.”
سواء صحت نسبة هذا القول بعينه أم لا، فإن برنارد شو عُرف بإعجابه بشخصيات تاريخية تحدت الوضع الراهن وقدمت رؤى جديدة. الفكرة المركزية هنا هي رؤية النبي محمد ﷺ كشخصية قادرة على تقديم حلول لمشاكل الإنسانية، ورؤية الإسلام كدين حيوي ومتوافق مع العقل.
- ليو تولستوي (Leo Tolstoy) (1828 – 1910م)
الروائي والمفكر الروسي العظيم، صاحب “الحرب والسلام” و “آنا كارنينا”، أبدى اهتمامًا كبيرًا بالإسلام وتعاليم النبي محمد ﷺ. كتب في إحدى رسائله مجموعة من الأحاديث النبوية تحت عنوان “حكم النبي محمد”، وقال في مقدمتها:
“محمد ﷺ لم يكن نبي العرب فحسب، بل نبي العالم أجمع… شريعة محمد ﷺ ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.”
وفي موضع آخر يُنسب إليه قوله:
“يكفي محمدًا ﷺ فخرًا أنه خلّص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأن شريعته ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.”
يُظهر تولستوي تقديرًا عميقًا للإصلاحات الأخلاقية والاجتماعية التي أحدثها النبي محمد ﷺ، ويرى في شريعته توافقًا مع العقل والحكمة، وهو ما يضمن لها البقاء والانتشار.
- مهاتما غاندي (Mahatma Gandhi) (1869 – 1948م)
زعيم حركة الاستقلال الهندية ورائد فلسفة اللاعنف، تحدث بإعجاب عن شخصية النبي محمد ﷺ وتأثيره. قال في حديث لجريدة “ينج إنديا” (Young India):
“أردت أن أعرف صفات الرجل الذي يملك بدون نزاع قلوب ملايين البشر… لقد أصبحت مقتنعًا كل الاقتناع أن السيف لم يكن هو الوسيلة التي من خلالها اكتسب الإسلام مكانته، بل كانت تلك البساطة، وذلك التجرد، وتلك الدقة في الوعود، وذلك التفاني المخلص لأصدقائه وأتباعه، وتلك الشجاعة، مع ثقته المطلقة في ربه وفي رسالته. هذه الصفات هي التي مهدت السبيل، وتخطت المصاعب، وليس السيف.”
يركز غاندي على الجوانب الأخلاقية والروحية في شخصية النبي ﷺ، مثل بساطته وتفانيه وشجاعته، ويرى أنها كانت السبب الحقيقي في انتشار رسالته وليس القوة العسكرية.
شخصية النبي محمد ﷺ الإنسانية وصدق رسالته
كثير من المفكرين الغربيين توقفوا عند صدق النبي محمد ﷺ وإنسانيته العميقة، معتبرين إياها دليلاً على عظمة رسالته.
- توماس كارلايل (Thomas Carlyle) (1795 – 1881م)
المؤرخ والكاتب الإسكتلندي، خصص فصلاً كاملاً للنبي محمد ﷺ في كتابه “الأبطال وعبادة الأبطال” (On Heroes, Hero-Worship, and the Heroic in History)، دافع فيه بقوة عن صدق النبي ﷺ ونبوته، ورد على الاتهامات التي كانت توجه إليه في الغرب. يقول كارلايل:
“إن الرسالة التي أداها ذلك الرجل للعالم ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لملايين الناس، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاشت ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والإحصاء أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدًا… إن الرجل الصادق لا يمكن أن يكون إلا صادقًا في أقواله وأفعاله.”
ويضيف:
“لقد كان رجلًا قليل الكلام، ولكنه إذا نطق نطق بكلام جاد ذي معنى، لا فضول فيه ولا ثرثرة. وكان في أغلب الأحيان صامتًا تمامًا. كانوا يرونه باسم الثغر، ضحوك السن إذا اقتضى الأمر، ولكنه كان في مجموعه حزينًا، كأن همومًا كبارًا كانت تملأ فؤاده… رجل جاد بطبعه، لم يكن يلهو ولا يلعب، ولا يشتغل بالهزل ولا بالمزاح.”
دفاع كارلايل عن صدق النبي محمد ﷺ كان له أثر كبير في تغيير النظرة الغربية التقليدية تجاهه، حيث قدمه كشخصية بطولية عظيمة، صادقة في رسالتها، جادة في سعيها.
- كارن أرمسترونغ (Karen Armstrong) (وُلدت 1944م)
الكاتبة البريطانية المتخصصة في مقارنة الأديان، قدمت في كتبها العديدة، مثل “محمد: سيرة النبي” (Muhammad: A Biography of the Prophet)، صورة إنسانية عميقة للنبي محمد ﷺ، مع التركيز على التحديات التي واجهها، ورحمته، وجهوده لبناء مجتمع عادل. تقول أرمسترونغ:
“لو أن محمدًا ﷺ كان محاربًا يسعى للسلطة الدنيوية، لكان بإمكانه أن يعيش كأمير في مكة، لكنه اختار بدلاً من ذلك حياة المعاناة والنضال من أجل رسالته.”
وتشير في مواضع أخرى إلى أن فهم سيرة النبي ﷺ يتطلب النظر إلى السياق التاريخي والاجتماعي الذي ظهر فيه، وأن الكثير من الانتقادات الموجهة إليه تنبع من سوء فهم أو تحيز. تقدم أرمسترونغ رؤية معاصرة تحاول فهم النبي محمد ﷺ في إطاره الإنساني والتاريخي، مع تقدير لجهوده الإصلاحية وتعاليمه الروحية.
التأثير الحضاري العالمي لرسالة النبي ﷺ
لم يقتصر تأثير النبي محمد ﷺ على الجانب الديني أو الأخلاقي، بل امتد ليشمل بناء حضارة كان لها إسهاماتها الكبرى في مسيرة التقدم الإنساني.
- يوهان فولفغانغ فون غوته (Johann Wolfgang von Goethe) (1749 – 1832م)
يُعتبر من أعظم أدباء ألمانيا وأحد أبرز الشخصيات في الأدب العالمي. أبدى غوته اهتمامًا كبيرًا بالشرق والإسلام، وظهر ذلك جليًا في ديوانه “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي” (West-östlicher Divan). يُنسب إليه قوله عن النبي محمد ﷺ:
“بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبي محمد ﷺ.”
وفي مسرحيته غير المكتملة “محمد”، صوره كشخصية روحانية عظيمة. كان غوته معجبًا بالتوحيد الخالص في الإسلام وبشخصية النبي ﷺ القيادية والروحية.
آني بيزنت (Annie Besant) (1847 – 1933م)
الكاتبة البريطانية، والناشطة في مجال الحقوق، والداعية الثيوصوفية، كتبت بإعجاب عن النبي محمد ﷺ في كتابها “حياة وتعاليم محمد” (The Life and Teachings of Muhammad)، قائلة:
“من المستحيل لأي شخص يدرس حياة وشخصية نبي العرب العظيم ويعرف كيف عاش وكيف علّم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل لهذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء.”
وأشادت بالإصلاحات الاجتماعية التي جاء بها، خاصة فيما يتعلق بوضع المرأة (مقارنة بالوضع السائد في الجزيرة العربية قبل الإسلام) والعدالة الاجتماعية.
واشنطن إيرفينغ (Washington Irving) (1783 – 1859م)
الأديب والمؤرخ والدبلوماسي الأمريكي، مؤلف كتاب “حياة محمد” (Life of Mahomet) وكتاب “محمد وخلفاؤه” (Mahomet and His Successors). على الرغم من أن كتاباته تحمل بعض سمات النظرة الاستشراقية السائدة في عصره، إلا أنه اعترف بالعديد من صفات النبي ﷺ الإيجابية وتأثيره الهائل. كتب إيرفينغ:
“لقد كان ممتلئًا بالفضائل، وكان أمينًا وصادقًا في كل معاملاته، حتى أطلق عليه قومه لقب الأمين… لقد كان بسيطًا في عاداته، متواضعًا في مظهره.”
لماذا انبهر هؤلاء المفكرون بشخصية النبي ﷺ؟
إن هذا الإعجاب والتقدير من قبل شخصيات غير مسلمة، ومن خلفيات فكرية وثقافية متنوعة، لم يأتِ من فراغ. يمكن تلخيص بعض الأسباب التي جعلت شخصية النبي محمد ﷺ تأسر عقولهم وقلوبهم في النقاط التالية:
- الصدق والإخلاص العميق: شعر الكثيرون بصدق رسالته ﷺ وقوة إيمانه بما يدعو إليه، وهو ما انعكس في ثباته وصبره على الأذى.
- التأثير التحويلي الهائل: قدرته ﷺ على تحويل مجتمع قبلي متناحر إلى أمة موحدة ذات هدف ورسالة، وإحداث تغيير جذري في فترة زمنية قصيرة نسبيًا.
- الحكمة العملية والتشريعية: القوانين والمبادئ التي جاء بها لم تكن مجرد نظريات، بل كانت قابلة للتطبيق العملي وأسست لمجتمع متماسك وعادل (في نظرهم مقارنة بما سبقه).
- الشمولية في الشخصية: كونه قائدًا عسكريًا، ومشرعًا، ورجل دولة، وزوجًا، وأبًا، وصديقًا، ومعلمًا روحيًا، كل ذلك في شخص واحد.
- البساطة والتواضع: على الرغم من الإنجازات العظيمة التي حققها، ظل ﷺ يعيش حياة بسيطة ومتواضعة، بعيدًا عن مظاهر الترف والبذخ.
- الرحمة والإنسانية: مواقفه ﷺ التي دلت على الرحمة والعفو حتى مع أعدائه، واهتمامه بالضعفاء والمحتاجين.
- الرسالة العالمية: كثير منهم رأوا في تعاليمه ﷺ ما يتجاوز حدود الجزيرة العربية ليخاطب الإنسانية جمعاء.
خاتمة: شهادات للتاريخ ورسالة للمستقبل
إن أجمل ما قيل عن النبي ﷺ من غير المسلمين ليس مجرد مجموعة من الاقتباسات التاريخية، بل هو دليل على أن القيم الإنسانية النبيلة والشخصيات العظيمة قادرة على تجاوز الحواجز الدينية والثقافية لتجد التقدير والاحترام في كل مكان. هذه الشهادات من مفكرين وفلاسفة عالميين تؤكد على التأثير العالمي للنبي محمد ﷺ، وتقدم لنا رؤى قيمة حول جوانب متعددة من شخصيته وإرثه.
في عالم اليوم الذي تتزايد فيه الحاجة إلى الحوار والتفاهم بين الثقافات والأديان، يمكن لهذه الكلمات أن تكون جسرًا للتواصل، ودعوة لإعادة اكتشاف القيم المشتركة التي يمكن أن تجمع البشرية. إنها تذكرنا بأن الحكمة والفضيلة ليستا حكرًا على أحد، وأن البحث عن الحقيقة والتقدير للنماذج الإنسانية الراقية هو سعي إنساني مشترك.
تبقى سيرة النبي محمد ﷺ وتعاليمه مصدر إلهام ودراسة لا ينضب، وهذه الشهادات من غير المسلمين تضيف بعدًا آخر لفهمنا لواحد من أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ البشرية، رجل وصفه الكثيرون بأنه “من ذهب الكلام”، وبأن حياته وتعاليمه هي بالفعل كلمات خالدة لن تموت أبدًا.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.