منذ ستينات القرن الماضي، تصاعد الاهتمام باستكشاف كوكب المريخ، حيث بادرت القوى الفضائية الكبرى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والهند، بإطلاق سلسلة من البعثات الفضائية الطموحة بهدف كشف أسرار هذا الكوكب الأحمر واستكشاف تضاريسه.
وقد تميزت هذه الجهود بإرسال عدد غير مسبوق من الروبوتات إلى المريخ، مما جعله الكوكب الأكثر استقبالاً لهذه المركبات الآلية. وعلى الرغم من إطلاق حوالي 45 بعثة منذ عام 1960، إلا أن نسبة الفشل كانت مرتفعة، حيث بلغت حوالي 26 مهمة.
وتنوعت أسباب هذا الفشل بين مشاكل تقنية حالت دون مغادرة بعض البعثات لمدار الأرض، واحتراق البعض الآخر في الغلاف الجوي خلال رحلتها، وتحطم مركبات أخرى على سطح المريخ عند الهبوط، وتوقف بعضها الآخر في منتصف الطريق، وفشل البعض الآخر في الوصول إلى مدار الكوكب. إلا أن بعض الرحلات إلى المريخ كانت ناجحة، ومن أبرزها ما سنذكره في هذا المقال.
الرحلات الفضائية إلى كوكب المريخ
مارينر 4
تعتبر مهمة “مارينر 4” التابعة لوكالة ناسا، والتي أطلقت في عام 1964، من أوائل المهمات الناجحة التي وصلت إلى المريخ وحلقت حوله، حيث كانت هذه المهمة بمثابة خطوة رائدة في استكشاف المريخ، وقد جاءت بعد مهمة “مارينر 3” التي لم تنجح بسبب عطل فني في غطائها الواقي.
ولكن “مارينر 4” تمكن من إرسال أول صور مقربة لسطح المريخ، كاشفًا عن تضاريسه الوعرة والفوهات الصدمية التي تشبه سطح القمر، وقد ساهمت هذه الصور في تغيير فهمنا للكوكب الأحمر، وأظهرت أنه عالم بارد وجاف، مما أثار تساؤلات جديدة حول إمكانية وجود حياة عليه.
كما تميزت مهمة “مارينر 4” بأنها لم تقتصر على التصوير فقط، بل أجرت أيضًا قياسات للجسيمات والمجالات المغناطيسية في الفضاء القريب من المريخ، مما وفر معلومات قيمة عن بيئة الكوكب.
مركبة كوريوسيتي
تُعدّ مركبة كوريوسيتي التابعة لوكالة ناسا، والتي هبطت على فوهة غيل عام 2012، واحدة من أكثر المركبات الفضائية تطورًا على الإطلاق، وقد أحدثت ثورة في فهمنا لكوكب المريخ. فهي ليست مجرد مركبة جوالة، بل هي مختبر علمي متكامل على عجلات، مجهز بأدوات متطورة لتحليل الصخور والتربة، والبحث عن علامات الحياة المحتملة.
تتميز كوريوسيتي بقدرتها على حفر الصخور وجمع العينات وتحليلها كيميائيًا، وقد اكتشفت بالفعل أدلة على وجود بيئات قديمة صالحة للسكن على المريخ، بما في ذلك وجود الماء السائل والمواد العضوية. وقد ساهمت هذه الاكتشافات بشكل كبير في فهمنا لتاريخ الكوكب الأحمر وإمكانية وجود حياة عليه.
وقد تم تصميم كوريوسيتي لتحمل الظروف القاسية على سطح المريخ، وهي تعمل بالطاقة النووية، مما يمنحها القدرة على العمل لسنوات عديدة. وقد قطعت المركبة مسافات طويلة واستكشفت مجموعة متنوعة من التضاريس، وقدمت لنا صورًا مذهلة للمناظر الطبيعية المريخية.
المركبة الفضائية الآلية إنسايت
تعد مركبة “إنسايت” الفضائية الآلية التابعة لوكالة ناسا إحدى أبرز المهمات الاستكشافية التي شهدها كوكب المريخ، وقد هبطت المركبة بنجاح على سطح الكوكب الأحمر في 26 نوفمبر 2018، واستمرت في عملها حتى ديسمبر 2022، متجاوزة بذلك مدة مهمتها الأساسية التي كانت مقررة حتى 24 نوفمبر 2020.
وقد شكلت “إنسايت” المحطة الثامنة لوكالة ناسا على سطح المريخ، حيث استغرقت عملية هبوطها حوالي ست دقائق فقط لاختراق الغلاف الجوي الرقيق للمريخ. وقد صممت “إنسايت” خصيصًا لدراسة الزلازل والتدفق الحراري من أعماق باطن كوكب المريخ، وذلك باستخدام أدوات متطورة، بما في ذلك مقياس الزلازل الأكثر حساسية على الإطلاق، والذي تمكن من التقاط تحركات زلزالية أكثر خفوتًا بخمسمائة مرة من تلك التي يمكن رصدها على الأرض.
وقد ساهمت البيانات التي جمعتها “إنسايت” في تقديم رؤى جديدة حول التركيب الداخلي للمريخ، وكشفت عن وجود زلازل مريخية متكررة، مما ساعد العلماء على فهم أفضل لكيفية تشكل الكواكب الصخرية، مثل المريخ والأرض، قبل 4.5 مليار سنة. وقد تم تمديد مهمة “إنسايت” من عامين إلى أربعة أعوام، وذلك نظرًا لأهمية البيانات التي كانت تجمعها، وقد تقاعدت المركبة الفضائية في ديسمبر 2022.
بعثة المريخ المدارية
تعد بعثة المريخ المدارية (2013)، المعروفة أيضًا باسم “مانجاليان”، إنجازًا تاريخيًا للهند، حيث كانت أول مهمة فضائية هندية ناجحة تصل إلى المريخ، لتضع الهند في مصاف الدول الرائدة في استكشاف الفضاء.
أطلقت المنظمة الهندية لأبحاث الفضاء (ISRO) المركبة الفضائية “مانجاليان” في 5 نوفمبر 2013، ووصلت إلى مدار المريخ في 24 سبتمبر 2014، بعد رحلة استغرقت حوالي 10 أشهر. تميزت هذه المهمة بتكلفتها المنخفضة نسبيًا وسرعة إنجازها، مما أثار إعجاب المجتمع العلمي الدولي.
تهدف بعثة المريخ المدارية إلى دراسة سطح المريخ وتكوينه الجيولوجي، بالإضافة إلى تحليل الغلاف الجوي للكوكب. تحمل المركبة الفضائية مجموعة من الأدوات العلمية، بما في ذلك كاميرا ملونة، وجهاز قياس حراري بالأشعة تحت الحمراء، ومحلل غاز الميثان، وجهاز قياس كتلة الغلاف الجوي المحايد، ومقياس طيف الأشعة فوق البنفسجية.
وقد ساهمت هذه الأدوات في جمع بيانات قيمة حول تضاريس المريخ، ومعادنه، وتركيب غلافه الجوي، مما ساعد العلماء على فهم أفضل لتاريخ الكوكب وتطوره.
من بين الإنجازات الرئيسية لبعثة المريخ المدارية، اكتشاف وجود غاز الميثان في الغلاف الجوي للمريخ، والذي قد يكون مؤشرًا على وجود حياة ميكروبية على الكوكب. كما قدمت البعثة صورًا عالية الدقة لسطح المريخ، كشفت عن تفاصيل مذهلة لتضاريس الكوكب، بما في ذلك الوديان والأخاديد والفوهات البركانية.
كانت مدة البعثة الأصلية 6 أشهر فقط، ولكن نظرًا لأدائها الممتاز، تم تمديدها عدة مرات. وقد استمرت المركبة الفضائية في إرسال البيانات والصور إلى الأرض لسنوات عديدة، مما ساهم في تعزيز فهمنا لكوكب المريخ. تعتبر بعثة المريخ المدارية علامة فارقة في تاريخ استكشاف الفضاء الهندي، وقد ألهمت الأجيال القادمة من العلماء والمهندسين في الهند وحول العالم.
مارس إكسبريس
تمثل مهمة “مارس إكسبريس” التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية علامة فارقة في استكشاف المريخ، حيث انطلقت في 2 يونيو 2003 ووصلت إلى مدار الكوكب الأحمر في 25 ديسمبر من العام نفسه. حملت المركبة الفضائية على متنها المسبار “بيجل 2” الذي كان من المفترض أن يهبط على سطح المريخ، لكنه فُقد أثناء الهبوط ويُعتقد أنه تحطم.
ومنذ ذلك الحين، واصلت “مارس إكسبريس” مهمتها في مدار المريخ، حيث أرسلت صورًا وبيانات قيمة، وكشفت عن آثار للمياه، ودرست الغلاف الجوي للكوكب. وقد أسفرت هذه المهمة حتى الآن عن إنجازات علمية هامة، بما في ذلك إنشاء خريطة طبوغرافية مفصلة وصور عالية الدقة لسطح المريخ ولقمره فوبوس، مما ساهم بشكل كبير في فهمنا لتاريخ المريخ وتكوينه.
ويؤكد العلماء أن البيانات التي جمعتها المركبة الفضائية ذات قيمة علمية لا تقدر بثمن، ومن المتوقع أن تستمر في عملها حتى عام 2026، مما يتيح فرصة لمزيد من الاكتشافات حول هذا الكوكب الغامض.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.