عندما نتحدث عن أصول الحضارة الإنسانية، لا يمكننا إلا أن نقف بإجلال أمام اسم “سومر”. في قلب بلاد ما بين النهرين (Mesopotamia)، على الأراضي الخصبة التي يرويها نهرا دجلة والفرات في جنوب العراق الحالي، بزغ فجر أول حضارة عظيمة في تاريخ البشرية. لم يكونوا مجرد شعب قديم، بل كانوا المهندسين الأوائل للمجتمع المنظم، والمبتكرين الذين وضعوا أسس الكتابة والقانون والعلوم.
إن قصة السومريين ليست مجرد فصل في كتاب تاريخ، بل هي حجر الزاوية الذي بُني عليه الكثير من صروح عالمنا الحديث. هذا المقال سيأخذكم في رحلة عميقة لاستكشاف من هم السومريون، وما هي إنجازاتهم الخالدة التي لا يزال صداها يتردد حتى اليوم.
من هم السومريون؟ لغز الأصل وبداية التاريخ
ظهر السومريون على مسرح التاريخ بشكل غامض حوالي الألفية الرابعة قبل الميلاد (تقريباً 4500-4000 ق.م). أصلهم العرقي واللغوي لا يزال لغزاً يحير العلماء؛ فلغتهم، المعروفة باللغة السومرية، هي لغة معزولة لا تشبه أي عائلة لغوية معروفة أخرى، سواء كانت سامية (مثل الأكدية والعربية) أو هندو-أوروبية. استقروا في الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين، في منطقة أطلقوا عليها اسم “كي-إن-جي” (Ki-en-gi)، والتي تعني “أرض الأسياد المتحضرين”.
لم يؤسس السومريون إمبراطورية موحدة منذ البداية، بل تطورت حضارتهم على شكل شبكة من المدن-الدول المستقلة والقوية التي كانت تتنافس وتتعاون فيما بينها. كل مدينة كانت تعتبر “ضيعة” لإلهها الخاص، يحكمها ممثل الإله على الأرض، وهو الملك أو الكاهن الأعلى. من أشهر هذه المدن التي كانت منارات للعلم والثقافة والقوة:
- أوروك (Uruk): تُعتبر من أقدم وأكبر المدن في العالم آنذاك، وهي موطن الملك الأسطوري جلجامش.
- أور (Ur): اشتهرت بـ “زقورتها” الشاهقة والمقبرة الملكية التي كشفت عن كنوز مذهلة.
- إريدو (Eridu): يعتقد السومريون أنها أول مدينة تأسست في العالم، وهي مركز عبادة الإله “إنكي”.
- لجش (Lagash) ونيبور (Nippur): مدن لعبت أدواراً سياسية ودينية كبرى في التاريخ السومري.
الكتابة المسمارية: عندما بدأ التاريخ المدوّن
إن أعظم إنجاز قدمه السومريون للبشرية على الإطلاق هو اختراع الكتابة. حوالي عام 3500 ق.م، ولدت الحاجة إلى تسجيل المعاملات التجارية والمحاصيل الزراعية، فطور السومريون نظاماً للكتابة التصويرية، الذي تطور لاحقاً إلى ما يُعرف بـ الكتابة المسمارية (Cuneiform). استخدموا قلماً من القصب ذا رأس مثلث لـ “طبع” علامات تشبه المسامير على ألواح من الطين الطري، والتي كانت تُجفف بعد ذلك تحت الشمس أو تُخبز في أفران لتصبح سجلات دائمة.
لم تكن الكتابة المسمارية مجرد أداة للمحاسبة، بل كانت ثورة معرفية. بفضلها، دوّن السومريون قوانينهم، وأساطيرهم الدينية، وأعمالهم الأدبية، ومراسلاتهم الملكية، ومعارفهم الفلكية والرياضية. لقد انتقل الإنسان بفضل هذا الاختراع من عصور ما قبل التاريخ إلى التاريخ المدوّن.
إنجازات وابتكارات الحضارة السومرية
لم تقتصر عبقرية السومريين على الكتابة فحسب، بل امتدت لتشمل كافة مجالات الحياة، مما جعلهم رواداً بحق:
- العجلة: رغم بساطتها، يُنسب للسومريين الفضل في اختراع العجلة حوالي عام 3500 ق.م، ليس للنقل في البداية، بل لصناعة الفخار (عجلة الخزّاف). سرعان ما أدركوا إمكانياتها في النقل، فغيروا بذلك مفاهيم التجارة والحرب إلى الأبد.
- القانون والتشريع: قبل حمورابي وقوانينه الشهيرة بقرون، وضع الملك السومري أور-نمو (Ur-Nammu)، مؤسس سلالة أور الثالثة (حوالي 2100 ق.م)، أقدم شريعة قانونية مكتشفة في التاريخ. كانت قوانينه تهدف إلى تحقيق العدالة وحماية الضعفاء، وتناولت قضايا مثل الطلاق، والإصابات الجسدية، والتعاملات الزراعية.
- الزراعة والري: أتقن السومريون فنون الهندسة الزراعية. قاموا ببناء شبكة معقدة من السدود والقنوات لتحويل مياه نهري دجلة والفرات إلى حقولهم، مما أدى إلى فائض في الإنتاج الزراعي وسمح بنمو المدن وازدهارها. كما اخترعوا المحراث الذي تجره الثيران، مما زاد من كفاءة الزراعة بشكل كبير.
- علم الفلك والرياضيات: طور السومريون نظاماً رياضياً يعتمد على الرقم 60 (النظام الستيني)، والذي ما زلنا نرى آثاره اليوم في تقسيمنا للساعة إلى 60 دقيقة، والدقيقة إلى 60 ثانية، والدائرة إلى 360 درجة. كما راقبوا حركة النجوم والكواكب، ووضعوا أولى التقاويم التي جمعت بين الدورة الشمسية والقمرية.
المجتمع والدين: نظرة على الحياة في سومر
كان المجتمع السومري طبقياً منظماً بشكل هرمي. في القمة كان الملك والكهنة، يليهم المسؤولون الحكوميون والكتبة، ثم الحرفيون والتجار والمزارعون، وفي قاعدة الهرم كان الأسرى والعبيد.
أما ديانتهم، فكانت متعددة الآلهة (Polytheistic)، حيث عبدوا مجموعة كبيرة من الآلهة التي كانت تجسد قوى الطبيعة والمفاهيم الكونية. من أبرز آلهتهم:
- آن (Anu): إله السماء الأعلى.
- إنليل (Enlil): إله الهواء والريح والعواصف، وكان الإله الحامي لمدينة نيبور.
- إنكي (Enki): إله الماء العذب والحكمة والسحر.
- إنانا (Inanna): إلهة الحب والجمال والجنس والحرب، وهي أشهر وأقوى الإلهات السومريات.
كانت المعابد، المعروفة باسم الزقورات (Ziggurats)، هي المركز الديني والاقتصادي للمدينة. هذه الأبراج المدرجة الضخمة لم تكن فقط أماكن للعبادة، بل كانت أيضاً مخازن للحبوب وورش عمل ومراكز إدارية.
ملحمة جلجامش: أقدم عمل أدبي في التاريخ
من رحم الحضارة السومرية، وُلدت “ملحمة جلجامش”، أقدم عمل أدبي ملحمي في تاريخ البشرية. تروي الملحمة قصة جلجامش، الملك شبه الأسطوري لمدينة أوروك، ورحلته مع صديقه المتوحش “إنكيدو”. بعد موت إنكيدو، يصاب جلجامش بالهلع من فكرة الفناء، فينطلق في رحلة يائسة عبر العالم بحثاً عن سر الخلود. تعتبر الملحمة تأملاً فلسفياً عميقاً في مواضيع الصداقة، الفقد، حتمية الموت، والبحث عن معنى للحياة.
نهاية الحضارة السومرية وإرثها الخالد
بدأت قوة السومريين في التضاؤل مع بداية الألفية الثانية قبل الميلاد. أدى التنافس المستمر بين المدن-الدول إلى إضعافها، بالإضافة إلى مشاكل بيئية مثل زيادة ملوحة التربة. استغل جيرانهم الساميون، مثل الأكاديين بقيادة قائدهم الأسطوري سرجون الأكدي، هذا الضعف ليسيطروا على المنطقة ويؤسسوا أول إمبراطورية في التاريخ حوالي عام 2334 ق.م.
رغم سقوط مدنهم، لم تمت الحضارة السومرية. لقد تبنى الغزاة (الأكاديون، ثم البابليون والآشوريون) إنجازات السومريين بالكامل. استمر استخدام الكتابة المسمارية لآلاف السنين لتدوين لغات أخرى، وظلت آلهتهم تُعبد تحت أسماء جديدة، واستمرت معارفهم في علم الفلك والرياضيات والقانون تشكل أساساً لحضارات بلاد الرافدين اللاحقة.
ختاما
كان السومريون هم من أوقدوا شعلة الحضارة. لقد حولوا مستنقعات جنوب العراق إلى جنة زراعية، وحولوا أصوات اللغة المنطوقة إلى رموز خالدة على الطين. من قوانينهم الأولى إلى قصصهم الملحمية، ومن عجلة الخزاف البسيطة إلى مراصدهم الفلكية، ترك السومريون إرثاً لا يمحى، مؤكدين أن بداية كل شيء عظيم كانت هناك، في “أرض الأسياد المتحضرين”.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.