العبقري الذي أضاء العالم ومات منسيًا: قصة نيكولا تسلا

تخيل عالمًا بدون هواتف ذكية، بدون شبكة واي فاي، بدون أجهزة تحكم عن بعد، وحتى بدون الكهرباء التي تصل إلى منزلك بسهولة وأمان. هذا العالم كان ليصبح حقيقة لولا عقل فذ ورؤية سبقت عصرها بعقود، عقل رجل يُدعى نيكولا تسلا. رغم أن اختراعاته هي الأساس الذي بُني عليه عالمنا الحديث، عاش هذا العبقري معظم حياته في الظل، ومات فقيرًا وحيدًا، وكاد التاريخ أن يمحو اسمه تمامًا.

فلماذا حدث هذا؟ كيف يمكن لرجل بهذه العبقرية أن يصبح مجرد هامش في كتب التاريخ لعقود طويلة؟ وما الذي تغير وجعل اسمه يلمع من جديد في القرن الحادي والعشرين؟ هذا المقال يكشف الأسرار وراء قصة الظلم التاريخي الذي تعرض له واحد من أعظم المخترعين على الإطلاق.

لا يمكن فهم قصة تسلا دون ذكر خصمه اللدود، توماس إديسون. كان إديسون رجل أعمال لامعًا ومخترعًا عظيمًا، لكنه كان يمثل “الحرس القديم”. بنى إديسون إمبراطوريته على نظام التيار المستمر (DC)، وهو نظام فعال للمسافات القصيرة فقط، ويتطلب محطات طاقة كل بضعة كيلومترات.

في المقابل، جاء تسلا بنظام ثوري: التيار المتردد (AC). كان هذا النظام أكثر كفاءة بشكل هائل، ويمكنه نقل الكهرباء لمئات الكيلومترات بأقل قدر من الفقد. كان من الواضح أن نظام تسلا هو المستقبل.

لكن إديسون لم يكن ليسمح لإمبراطوريته بالانهيار. فشنّ واحدة من أقسى حملات التشويه في التاريخ.

  • حرب السمعة: قام إديسون بتنظيم عروض عامة مروعة، حيث كان يصعق الحيوانات (من الكلاب إلى الفيلة) بالتيار المتردد ليثبت للناس أنه “قاتل” وخطير جدًا للاستخدام في المنازل.
  • الفرق في الشخصية: كان إديسون نجمًا إعلاميًا ورجل أعمال يعرف كيف يبيع أفكاره ومنتجاته. أما تسلا، فكان عالمًا انطوائيًا، يركز على الاختراع نفسه أكثر من كيفية جني الأموال منه.

في النهاية، فاز نظام التيار المتردد الذي ابتكره تسلا وأصبح هو المعيار العالمي الذي نستخدمه اليوم. لكن المعركة تركت أثرها: ارتبط اسم إديسون بالضوء والكهرباء في أذهان الناس، بينما بدأ اسم تسلا بالاختفاء.

السبب الثاني والأهم لنسيان تسلا هو أنه كان يفكر كفيلسوف وعالم، لا كرجل أعمال. كانت أحلامه أكبر بكثير من مجرد بيع المصابيح الكهربائية.

  • الطاقة المجانية للجميع: كان حلم تسلا الأكبر هو بناء برج ضخم (برج واردنكليف) يمكنه نقل الكهرباء لاسلكيًا إلى أي مكان في العالم، وبشكل مجاني. لقد أراد أن يمنح البشرية طاقة لا تنضب.
  • فكرة سيئة للأعمال: عندما سمع الممولون، مثل رجل الأعمال الشهير جيه. بي. مورغان، بفكرة “الطاقة المجانية”، سحبوا تمويلهم على الفور. فكيف يمكن جني الأرباح من شيء مجاني؟

هذا الحلم النبيل كان سببًا في إفلاسه. لقد كان سابقًا لعصره لدرجة أن العالم لم يكن مستعدًا لأفكاره، وفشل في تحويل عبقريته إلى نجاح مالي مستدام. بينما كان إديسون يبني الشركات، كان تسلا يبني الأحلام، والتاريخ (في البداية) يذكر أصحاب الشركات.

مع تقدمه في السن، أصبح تسلا أكثر غرابة وانعزالًا. كان لديه هواجس وروتين صارم، وكان يفضل قضاء وقته في إطعام الحمام في حديقة عامة على التواصل مع الناس. هذه العادات جعلت الكثيرين في المجتمع العلمي ورجال الأعمال ينظرون إليه على أنه “عالم مجنون” بدلاً من عبقري.

عاش سنواته الأخيرة وحيدًا في فندق في نيويورك، غارقًا في ديونه. وعندما تموت وحيدًا ومنعزلًا، يصبح من السهل جدًا على العالم أن ينساك.

تعرض تسلا لكارثة كبرى عندما احترق مختبره في نيويورك عام 1895. هذا الحريق دمر سنوات من الأبحاث، والملاحظات، والنماذج الأولية لاختراعات لم يرها العالم قط.

والأمر الأكثر إثارة للجدل هو ما حدث بعد وفاته عام 1943. قامت الحكومة الأمريكية (مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI) بمصادرة جميع أوراقه وأبحاثه، بدعوى “الأمن القومي”، خاصة أنه كان يدعي أنه يعمل على “شعاع الموت”. بقيت هذه الأوراق سرية لعقود، مما منع العالم من الاطلاع على حجم إنجازاته وأفكاره الأخيرة.

إذًا، كيف عاد اسم تسلا ليلمع من جديد؟ الجواب بسيط: الإنترنت. في عصر المعلومات، بدأ المهتمون بالعلوم والتاريخ المنسي في البحث عن قصص الأبطال المظلومين. انتشرت قصة تسلا المأساوية كالنار في الهشيم عبر المنتديات، والمقالات، والأفلام الوثائقية. أصبح رمزًا للعبقرية التي سحقها جشع الشركات.

وجاءت الضربة القاضية التي أعادت اسمه إلى كل بيت عندما قرر رائد أعمال لامع يُدعى إيلون ماسك تسمية شركته للسيارات الكهربائية باسم “تسلا”، تكريمًا للرجل الذي حلم بعالم يعمل بالطاقة النظيفة قبل قرن من الزمان.

قد يكون التاريخ قد تجاهل نيكولا تسلا لفترة طويلة، لكن إرثه كان يعيش بيننا طوال الوقت. في كل مرة تضيء فيها مصباحًا، أو تشحن هاتفك، أو تتصل بالإنترنت لاسلكيًا، فأنت تستخدم جزءًا من حلمه. لقد أضاء تسلا العالم حرفيًا، واليوم، وبعد طول انتظار، بدأ العالم أخيرًا برد الجميل وإضاءة اسمه ليبقى خالدًا.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية