القائمة إغلاق

النثر في العصر العباسي

شهد النثر العربي في العصر العباسي تحولاً جذرياً، فبعد أن كان مقتصراً على أشكال بسيطة، دخل في عصر جديد من التنوع والازدهار. ساهم في هذا التحول سيطرة العنصر الفارسي على مقاليد الحكم، مما أدى إلى تدفق الثقافة الفارسية الغنية على الأدب العربي.

لم يقتصر الأمر على الفارسية، بل امتد التأثير إلى ثقافات أخرى مثل الهندية واليونانية، وذلك بفضل حركة الترجمة النشطة التي انتشرت في ذلك العصر. نتج عن هذا التلاقح الثقافي مزيج فريد من العناصر العربية والفارسية واليونانية والهندية، مما غنى النثر العربي بأفكار جديدة وأساليب بلاغية متنوعة.

وبهذا، خرج النثر العباسي عن إطاره التقليدي، ليشمل مجالات أوسع وأعمق، مثل الفلسفة والعلوم والتاريخ، متجاوزاً بذلك حدود الشعر الذي كان سائداً في العصور السابقة.

مع تعدد المشارب التي أثرت الثقافة في العصر العباسي ظهرت عدة أنواع من النثر، منها ما يأتي:

  • النثر العلمي: هو استخدام النثر لكتابة العلوم الشرعية واللغوية وغيرها.
  • النثر التاريخي: هو استخدام النثر في تسجيل الأحداث التاريخية والوقائع والأيام.
  • النثر الفلسفي: هو استخدام النثر في الكتابات الفلسفية.
  • النثر الأدبي: وقد تنوعت الفنون الأدبية في هذا العصر وظهرت فنونٌ جديدةٌ.

تنوعت فنون النثر في هذا العصر، ومن أبرز هذه الفنون ما يأتي:

الخطب والوعظ

نشطت الخطابة في بدايات العصر العباسي بشكل ملحوظ، حيث أصبحت ساحة للتنافس والتأثير بين الفرق والأحزاب التي تنازعت على السلطة. فقد استخدم كل حزب الخطابة كأداة فعالة لنشر أفكاره وجذب الأنصار، والتعبير عن طموحاته، وإقناع الجماهير بوجهات نظره. وكان الخطباء في ذلك العصر بمثابة القادة الروحيين والسياسيين الذين يحركون الجماهير ويوجهونها، مما جعل الخطابة ساحة صراع حامية الوطيس.

ومن أبرز الخطباء في تلك الفترة مؤسس الدولة العباسية، أبو العباس السفاح، الذي استخدم خطاباته لإلهام الثوار وتوحيد صفوفهم ضد الدولة الأموية. وقد خلفه ابنه أبو جعفر المنصور الذي كان يتمتع ببراعة فائقة في الخطابة، واشتهر بمخاطباته الحماسية التي كانت تلهب حماس أنصاره وتزيد من ولائهم له.

وقد بلغ التنافس الخطابي ذروته في الصراع بين المنصور ومحمد بن عبد الله النفس الزكية، حيث تبادل الاثنان خطبًا حادة ومواجهات كلامية لا تقل شراسة عن المعارك العسكرية. ومن أشهر ما قاله النفس الزكية في انتقاد المنصور: “أيها الناس، إنه قد كان من أمر هذا الطاغية أبي جعفر من بنائه القبة الخضراء، التي بناها معاندة لله في ملكه، وتصغيره الكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.

“وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين الأولين، والأنصار المواسين، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك، وحرموا حلالك وعملوا بغير كتابك، وغيروا عهد نبيك صلى الله عليه وسلم، وأمنوا من أخفت، وأخافوا من أمنت، فأحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق على الأرض منهم أحدًا.”

مع ثبوت الخلافة لبني العباس ضعفت الخطابة، وبدورها ضعفت خطابة المحافل وهي خطبة الوفود التي تأتي على الخليفة، أما الخطابة الدينية فقد بقي لها تألقها في هذا العصر الأول للعباسيين وهناك خطب مشهورة لخلفاء أمثال المهدي والرشيد، ولكن بعد الرشيد ضعفت الخطابة الدينية إذ أصبح الخلفاء يخطبون بخطب غيرهم وبهذا خفت بريقها.

المناظرات

ازدهر أدب المناظرات في هذا العصر، ولعله من مظاهر التجديد في هذا العصر، ويمكن القول إنّ أصل المناظرات في الثقافة العربية هو أدب المفاخرات الذي ظهر في العصر الجاهلي.

المناظرات بشكلها الذي ظهر في العصر العباسي يمكن القول إنه استمد من الثقافة اليونانية، وقد نشطت في عهد الرشيد وأبنائه، وكانت المناظرات تدور حول الأمور الفقهية والعقدية واللغوية، ومن أمثلتها مناظرة سيبويه والكسائي التي حصلت في عهد الرشيد.

الرسائل الديوانية

مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية احتاجت إلى الدواوين التي تنظم شؤون الدولة، والدواوين في أصلها مستمدة من الثقافة الفارسية، ومع سيطرة العنصر الفارسي في هذا العصر اهتموا بالدواوين فتعقدت شبكة الدواوين وأصبح هناك دواوين للخراج، ودواوين للنفقات، ودواوين للجيش، ودواوين للحروب، ودواوين للرسائل، ودواوين للخاتم، ودواوين لشرقيّ الدولة ودواوين لغربيها.

فلكل ولاية ديوان، وقد أصبح للدواوين كتاب يترقون في المناصب، وأصبح للكتابة نهجٌ مخصص وهي من الوظائف المرموقة في الدولة، وكان على الكاتب أن يتحلى بثقافةٍ عاليةٍ ويتمتع بأسلوبٍ رائقٍ في الكتابة، وقد برز من هؤلاء الكتاب ابن المقفع، وسهل بن هارون، وابن الزيات وغيرهم.

العهود والوصايا والتوقيعات

العهود والوصايا فكانت تصدر من الخلفاء والولاة أو كتابهم وكانت تصدر عن الدواوين، والتوقيعات هي رسائل موجزة تكون رداً على رسائل موجهة للخلفاء والولاة، ومن أمثلتها توقيع أبو جعفر المنصور على رسالة من غلمانه يطلبون زيادة رواتبهم فأجابهم: “قليلٌ دائم خيرٌ من كثير منقطع” وتوقيعه على رسالة وصلت من بعض المناطق تشكو ظلم الوالي فأجابهم: “وما كنت متخذ المضلين عضداً” وأمر بعزل الوالي.

ومن أمثلتها توقيع هارون الرشيد على رسالة من نقفور ملك الروم يطلب منه إعادة الجزية التي كانت تدفعها الملكة التي كانت قبله، وأمر بتسيير الجند إليه فهزمه وأجبره على دفع الجزية، ومن الأمثلة أيضًا توقيع أبي جعفر المنصور على رسالة من عامله في مصر يشكو نقص مياه النيل فأجابه: “طهر عسكرك من الفساد يعطيك النيل الانقياد”.

وتوقيع المنصور على شكوى لأهل الكوفة من عاملهم «كما تكونون يؤمّر عليكم» وتوقيع المهدى لشاعر: «أسرفت في مديحك فقصّرنا في حبائك» وتوقيع الرشيد على رسالة لوالي خراسان: «داو جرحك لا يتسع» وتوقيع المأمون على قصة متظلم: «ليس بين الحق والباطل قرابة».

Related Posts

اترك رد