في صخب الحياة اليومية، قد يؤدي الإنسان آلاف الأعمال بشكل تلقائي، بدءاً من استيقاظه صباحاً حتى نومه ليلاً. لكن في ميزان الإسلام، هناك سر دقيق يفصل بين العمل الذي يرتفع إلى السماء ويُكتب في سجل الحسنات، والعمل الذي يذهب هباءً منثوراً. هذا السر هو “النية”.
النية ليست مجرد كلمة تُقال، بل هي البوصلة التي توجه القلب، والروح التي تُبث في جسد العمل، وهي المعيار الأول الذي يُوزن به كل فعل وقول عند الله تعالى.
ما هي النية وما هي مكانتها العظيمة؟
النية في أبسط تعريف لها هي “القصد والعزم على فعل الشيء”. ومكانها القلب، لا اللسان. إنها الإجابة الصادقة على سؤال “لماذا أفعل هذا؟”. وقد وضع الإسلام النية في منزلة رفيعة جداً، حتى جعلها أساس صحة كل العبادات والأعمال. والدليل الأبرز على ذلك هو الحديث الذي يعتبره العلماء ثلث الإسلام، وهو قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
“إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ”. (متفق عليه – رواه البخاري ومسلم).
هذا الحديث قاعدة عظيمة، يوضح أن قيمة العمل لا تكمن في شكله الظاهري فحسب، بل في القوة الدافعة الكامنة في قلب صاحبه. فالصلاة قد تكون واحدة في حركاتها، لكن أحدهم يصليها طلباً لرضا الله، والآخر يصليها ليراه الناس فيمدحوه، وهنا يكمن الفرق الهائل في القبول والأجر.
الإخلاص: جوهر النية الصالحة
الشرط الأساسي في النية حتى تكون مقبولة هو الإخلاص، أي أن يكون القصد من العمل هو وجه الله تعالى وحده، لا شريك له. فلا يُقصد به مدح الناس، أو تحصيل منفعة دنيوية، أو تحقيق شهرة. قال الله تعالى في كتابه الكريم آمراً بالإخلاص: “وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ” (سورة البينة: 5).
إن العمل بدون إخلاص يشبه الجسد بلا روح، لا قيمة له عند الله. وقد حذر القرآن الكريم أشد التحذير من “الرياء”، وهو فعل العبادة ليراها الناس، واعتبره من صفات المنافقين. قال تعالى: “فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ” (سورة الماعون: 4-6).
كيف تحول النيةُ العاداتِ إلى عبادات؟
وهنا تتجلى عظمة الإسلام ورحمته. فالنية الصالحة لا تقتصر على العبادات كالصلاة والصيام فقط، بل يمكنها أن تحول أعمالك اليومية وعاداتك الحياتية إلى عبادات تؤجر عليها. وهذا من أوسع أبواب كسب الحسنات.
- الأكل والشرب: عندما تأكل بنية التقوي على طاعة الله وطلب العلم والعمل، يصبح أكلك عبادة.
- النوم: عندما تنام مبكراً بنية الاستيقاظ لصلاة الفجر أو للعمل بنشاط، يكون نومك في ميزان حسناتك.
- العمل: عندما تذهب إلى عملك بنية الكسب الحلال والإنفاق على أهلك وإعفاف نفسك عن سؤال الناس، فإن كل ساعة تقضيها في عملك هي عبادة.
- الزيارات الاجتماعية: عندما تزور مريضاً بنية اتباع السنة وتفريج كربته، أو تزور قريبك بنية صلة الرحم، تتحول زيارتك إلى طاعة عظيمة.
الدليل على ذلك قول النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص: “إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ”. (رواه البخاري). فتأمل كيف أن اللقمة التي يضعها الرجل في فم زوجته، وهي من أمور الحياة العادية، تتحول بالنية الصالحة إلى صدقة يؤجر عليها.
ثمار النية الصادقة وفوائدها
إن إخلاص النية لله له ثمار عظيمة يجنيها المسلم في الدنيا والآخرة:
- 1. قبول العمل: كما ذكرنا، هو الشرط الأول لقبول أي عمل صالح.
- 2. مضاعفة الأجر: قد يكون العمل صغيراً في حجمه، لكن النية الصادقة تعظّم أجره عند الله.
- 3. الأجر على النية حتى لو لم يتم العمل: من رحمة الله الواسعة أن العبد إذا نوى نية صالحة وعزم عليها، ثم منعه مانع من فعلها، فإنه يُكتب له أجرها كاملاً. قال النبي ﷺ: “مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً”. (متفق عليه).
- 4. التوفيق والمعونة من الله: من أصلح نيته وقصده، وفّقه الله وأعانه وسدد خطاه.
- 5. راحة القلب وطمأنينة النفس: عندما يكون الهدف هو الله وحده، يتحرر القلب من التعلق بالناس وانتظار مدحهم أو الخوف من ذمهم، وهذا يجلب سكينة لا مثيل لها.
ختاما
إن النية هي التجارة الحقيقية مع الله، تجارة لا تبور أبداً. لذا، يجب على كل مسلم أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة قبل كل عمل، ويسأل: “لماذا أفعل هذا؟ ولمن أفعله؟”. إن تجديد النية وتصحيحها باستمرار هو مفتاح الاستقامة والقبول. فلنجعل النية الصالحة رفيقنا الدائم في كل شؤون حياتنا، الصغيرة والكبيرة، لنحول أعمارنا كلها إلى عب
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.