في عالم اليوم الذي لا ينفصل فيه الإنترنت عن حياتنا اليومية، تتزايد المخاوف بشأن انتهاكات الخصوصية. فمع كل نقرة زر أو مشاركة معلومة، نترك بصمة رقمية قد تتعرض للاستغلال. هذا المقال يستكشف أبرز التحديات التي تواجه خصوصيتنا في الفضاء الرقمي، وكيف يمكن حماية بياناتنا الشخصية من الوصول غير المصرح به.
انتهاكات الخصوصية في عالم الإنترنت
شهدت عملية جمع البيانات تحولاً جذرياً مع ظهور الإنترنت، مما جعلها أسهل وأسرع بكثير. فبدلاً من الاعتماد على الاستبيانات التقليدية، يمكن الآن جمع كميات هائلة من البيانات عن الأفراد وسلوكياتهم عبر المنصات الرقمية، مما يوفر رؤى قيمة للأعمال والبحوث. ومع ذلك، فإن هذه التطورات تثير أيضًا مخاوف بشأن الخصوصية وأمن البيانات.
لا يقتصر الأمر على جمع البيانات الظاهرة، بل يتعداه إلى جمع تفاصيل شخصية تبدو تافهة في ظاهرها، مثل سجل البحث على الإنترنت أو المنتجات التي تمت مشاهدتها. هذه البيانات، التي يتم جمعها بصمت، تخضع لتحليلات معقدة تكشف عن أنماط سلوك المستخدم واهتماماته بدقة متناهية. وبهذه الطريقة، يتم بناء ملفات تعريف شخصية مفصلة لكل مستخدم، يمكن الاستفادة منها في العديد من المجالات، من التسويق المستهدف إلى تخصيص المحتوى، وحتى في عمليات اتخاذ القرارات السياسية.
باختصار، يمكن تجميع بياناتك الشخصية واستخدامها في استخلاص معلومات إحصائية عامة. على سبيل المثال، يمكن تحديد نسبة المستخدمين الذين يفضلون خدمات التوصيل في منطقة معينة، أو تقدير عدد الأشخاص الذين يستخدمون تطبيقات الملاحة في أثناء تنقلاتهم اليومية.
حتى عندما نعتقد أننا نتصفح الإنترنت بشكل مجهول، فإن أجهزتنا تترك آثارًا رقمية لا يمكن إخفاؤها تمامًا. عنوان IP هو أحد هذه الآثار، وهو يمثل بوابة الدخول إلى عالمنا الرقمي. ومع ذلك، فإن الاعتماد على عنوان IP وحده لتحديد هوية المستخدم ليس بالأمر السهل، حيث يمكن بسهولة إخفاء هذا العنوان أو مشاركته مع العديد من المستخدمين الآخرين.
ومع التطور المتسارع للتكنولوجيا، أصبح جمع البيانات الشخصية أمراً سهلاً وسريعاً، مما أدى إلى تراكم كميات هائلة من المعلومات عن الأفراد لم يسبق لها مثيل، تغطي كل جوانب حياتهم اليومية.
عندما نتحدث عن الخصوصية في عصرنا الرقمي، فإن الأرقام تتحدث عن نفسها. فوفقًا لدراسة هولندية، قد يكون الفرد العادي مسجلاً في ما يصل إلى 500 قاعدة بيانات مختلفة تحتوي على معلومات شخصية متنوعة. ولك عزيزي القارئ أن تتخيل حجم ودقة البيانات التي أنتجناها حتى هذا اليوم، والذي يتزايد باستمرار بسبب التسربات والقرصنة، يجعل خصوصيتنا هدفًا سهلاً للمخترقين والمتطفلين.
أما عن الجانب المظلم لجمع البيانات كون الأمر لا يقتصر على إزعاجنا بالإعلانات الموجهة والمصممة خصيصًا لاستغلال رغباتنا واحتياجاتنا، بل قد يتم استغلال بياناتنا الشخصية لدفعنا إلى اتخاذ قرارات شرائية غير مدروسة، بل ويمتد الأمر إلى ارتكاب جرائم تستهدفنا بشكل شخصي.
ولكن على الجانب الآخر ورغم ما تثيره مسألة خصوصية البيانات من مخاوف كبيرة، إلا أنه لا يمكن إنكار الدور الإيجابي الذي تلعبه في تطوير منتجات وخدمات مبتكرة تساهم في تحسين حياتنا اليومية. كما أنها تشكل حجر الأساس للعديد من الشركات الناشئة التي تسعى لتقديم حلول مبتكرة للمشكلات التي تواجه المجتمع.
الجانب القانوني في هذا الأمر
يشهد العالم تحولاً إيجابياً في مجال حماية البيانات، حيث تبنت العديد من الحكومات والمنظمات قوانين صارمة لحماية خصوصية الأفراد. من أبرز الأمثلة على ذلك، اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي (GDPR) التي وضعت معايير عالمية جديدة لحماية بيانات المستخدمين. هذه القوانين تساهم في بناء ثقة أكبر بين المستخدمين والشركات، وتعزز من بيئة رقمية أكثر أماناً وشفافية.
ويضمن هذا القانون حماية بيانات المستخدمين الشخصية من خلال مجموعة من البنود التي تضمن الشفافية في التعامل مع البيانات، وتمنح المستخدمين حقوقاً واسعة في الاطلاع على بياناتهم الشخصية وإدارتها، بما في ذلك حقهم في طلب حذفها.
وكمثال، فـ المملكة العربية السعودية تضم منظومة تشريعية لحماية البيانات، من أبرزها نظام المعلومات الائتمانية الذي يفرض على جميع الجهات المعنية بالحفاظ على سرية المعلومات الائتمانية وعدم إساءة استخدامها.
كما تولي المملكة العربية السعودية اهتمامًا كبيرًا بحماية البيانات الشخصية، حيث أصدرت العديد من الأنظمة والقوانين التي تضمن هذه الحماية. فالنظام التجارة الإلكتروني، على سبيل المثال، يضمن عدم إفشاء بيانات المستهلك دون موافقته، في حين يعاقب نظام مكافحة جرائم المعلوماتية على الجرائم الإلكترونية التي تستهدف هذه البيانات. وتستمر هذه الجهود في التطور والتحديث بشكل مستمر لضمان أقصى درجات الحماية للبيانات.
سياسة الخصوصية
كشفت دراسة حديثة أجرتها شركة ديلويت أن 91% من مستخدمي الإنترنت يوافقون على سياسات الخصوصية دون قراءتها، وترتفع هذه النسبة إلى 97% بين الشباب. يعود السبب الرئيسي لذلك إلى طول وتعقيد هذه السياسات، مما يدفع المستخدمين للموافقة عليها بشكل آلي للحصول على الخدمة.
شهد يوليو 2019 انتشاراً واسعاً لتطبيق “فيس آب” والذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لإنشاء صورة تبين شكل الشخص في فترة الشيخوخة بناءً على الصورة التي زودهم بها المستخدم، ورغم شعبيته الهائلة التي تجاوزت 150 مليون مستخدم، إلا أن سياسة الخصوصية للتطبيق ذكرت أن الشركة المالكة للتطبيق لا تضمن الحفاظ على خصوصية وسرية صورتك بل على العكس تذكر بأن لها الحق في استخدام صورتك واسمك وتفضيلاتك في أغراضٍ أخرى.
رغم تأكيد الشركة على عدم إساءة استخدام البيانات، إلا أن الشكوك لا تزال قائمة حول مدى التزامها بهذا الوعد، خاصة مع استمرار جمعها لكميات هائلة من المعلومات الشخصية للمستخدمين. فكيف يمكن للمستخدم أن يثق في وعود الشركة بعدم استخدام بياناته في أغراض أخرى، خاصة وأنها جمعت كمية هائلة من المعلومات الحساسة مثل الصور والبيانات الشخصية الأخرى؟
ما هو الحل إذن؟
إن الشبكة العنكبوتية أداة قوية يمكن أن تستخدم للإبداع والتواصل والمعرفة، ولكنها تحتاج إلى أن تُدار بحكمة. لا يمكننا إنكار الدور الكبير الذي تلعبه في حياتنا اليومية أو الامتناع عن استخدامها لتجنب الأمر، ولكن يجب علينا أن نجد التوازن بين الاستفادة من خدماتها وبين تجنب الآثار السلبية لاستخدامها المفرط أو غير المدروس. والحل يكمن في الاستخدام العقلاني ومن ذلك:
1- قضاء جزء من الوقت لقراءة سياسة الخصوصية فإذا وجدت بنودًا لا تعجبك أو تنتهك خصوصيتك فلا تستمر.
2- تقييم الموقع الإلكتروني أو التطبيق قبل الموافقة على سياسة الاستخدام والخصوصية والسماح له باستخدام بياناتك، ولا تنسَ أن تقارن بين البيانات المطلوبة والخدمة المقدمة، فمن غير المنطق مثلاً أن يطلب موقعًا رياضيًا بيانات عن تفاصيل عملك أو يطلب تطبيق توصيل طعام إذنًا بالوصول إلى صورك أو قائمة الأرقام لديك.
3- استخدم خاصية المنع Block في المتصفح وفي بريدك الإلكتروني وجوالك وغيرها.
4- احرص على عدم الدخول أو تحميل المواقع والتطبيقات الغير موثوقة وتصفح المواقع التي ستزوها لمرةٍ واحدة أو لسببٍ لا يتكرر كثيرًا بالمتصفح الخفي.
5- استخدم السحابة الإلكترونية بعقلانية ولا ترفع فيها بيانات الشخصية عالية الأهمية، بل احفظها في وسائل التخزين المحسوسة مثل الأقراص وغيرها، واجعل لديك عدة نسخ في حال تعرضت إحداها للتلف.
6- قم بمسح بيانات استخدامك التاريخية في المواقع التي تتردد عليها كل فترة، وتتوفر ميزة إضافية في بعض المواقع الأكثر احترافية مثل قوقل Google حيث بإمكانك طلب نسخة من بياناتك التاريخية والتي تشمل كل المواقع الخاصة بقوقل مثل محرك البحث والخرائط وتقويم قوقل وغيرها.
رغم أنَّ حماية بياناتك على الإنترنت أمرٌ صعب التحقيق بشكل كامل، إلا أنَّ اتباع هذه الإجراءات الوقائية سيساعدك بشكل كبير على تقليل المخاطر والحفاظ على خصوصيتك إلى أقصى حد ممكن. ورغم ذلك كن حذرًا عند التعامل مع معلوماتك الشخصية على الإنترنت.
مستقبل بياناتنا الخصوصية
في ظل التطور التكنولوجي المتسارع والاعتماد المتزايد على البيانات في كافة مناحي الحياة، تتعاظم الحاجة إلى وضع آليات حماية فعالة للبيانات الشخصية، خاصة مع الانتشار الواسع للبيانات الحيوية والبيانات المتعلقة بالسلوك الشخصي.
ومع ذلك فـ برغم التحديات المتزايدة التي تواجه حماية البيانات، إلا أن التطور التقني والقانوني يبشر بآفاق واعدة لحماية المعلومات الشخصية بشكل أفضل.