في تاريخ الأمة الإسلامية، تتجلى العديد من المحطات الفارقة التي شكلت مسارها وحفزت مسيرتها نحو العزة والتمكين. ومن أبرز هذه المحطات، تلك الهجرة النبوية المباركة التي مثلت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الإسلام. فبانتقال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأطهار من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، فتح الله تعالى أبواب الخير والبركة، وبدأ فصل جديد من فصول الدعوة الإسلامية، فصلٌ زاخر بالإنجازات والمعجزات.
إن الهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال جغرافي من مكان إلى آخر، بل كانت هجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، هجرة من الظلمات إلى النور، ومن الضيق إلى السعة. لقد كانت هذه الهجرة وليدة ظروف قاسية فرضتها قريش المشركة على المسلمين الأوائل، الذين تعرضوا لأشد أنواع الأذى والاضطهاد. فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم بداً من الهجرة إلى المدينة المنورة، حيث وجد الأمان والدعم من الأنصار الكرام الذين استقبلوه بصدر رحب، وبايعوه على السمع والطاعة.
إن للهجرة النبوية أبعاداً عميقة ومعاني سامية تتجاوز مجرد الحدث التاريخي. فهي تمثل بداية تأسيس الدولة الإسلامية الأولى، وتطبيق الشريعة الإسلامية في مجتمع كامل. كما أنها كانت نقطة انطلاق لجهاد المسلمين في سبيل الله، ونشر دعوته في أرجاء المعمورة. وللهجرة النبوية دلالات رمزية كبيرة، فهي تدعونا إلى الصبر والثبات على الحق، والتضحية من أجل المبادئ والقيم السامية.
أسباب الهجرة النبوية
يمكن أن نوجز أهم الأسباب التي دعت إلى هجرة الرسول والمسلمين من مكة إلى المدينة المنورة كالتالي:
اضطهاد قريش للمسلمين في مكة
لمّا تزايد نور الإسلام في مكة وما حولها، وازداد عدد المؤمنين به، بدأت شمس الكفر تتضاءل شيئًا فشيئًا، فاستشعرت قريش بوادر الهزيمة، وتيقنت من أن دين الإسلام سيقضي على أباطيلها وأوثانها، ويهدم صروح طاغوتها.
فما كان منهم إلا أن اشتدوا عودًا في عداوتهم للمسلمين، وتمادوا في إيذائهم وسلبهم حقوقهم، خوفًا على مصالحهم الدنيوية الدنيئة، وحقدًا على دين الحق الذي جاء ليحرر العباد من عبودية الشيطان. وقد بلغ بهم الأمر أن اعتدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأطهار، وأذواهم أشد الأذى، ليكفوا عن دعوتهم إلى الله، ويرجعوا عن دينهم الحنيف.
وما كان أشد من ذلك اليوم المشؤوم الذي خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعو أهلها إلى الإسلام، فلقيه منهم أشد أنواع الإيذاء والضرب، حتى كاد أن يقتلوه، لولا عناية الله تعالى به، وحفظه له. ولكن الله تعالى قد وعد عباده المؤمنين بالنصر، وجعل الكفر في ذلة والخسارة، فما لبث نور الإسلام أن انتشر في الآفاق، ودخل فيه الناس أفواجًا أفواجًا، حتى ملأت الأرض قسطًا وعدلًا.
نشر الدعوة الإسلامية خارج مكة
لم يقتصر نزول الإسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون نوراً يُضيء قومًا بعينه، بل كان هدفه ساميًا وشاملًا، إذ أُنزل ليكون نوراً للناس أجمعين، ودعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له. ولما كانت الدعوة الإسلامية تتطلع إلى أن تكون عالمية شاملة، فقد كانت الحاجة ماسة إلى بناء قاعدة صلبة تنطلق منها إلى الآفاق.
وكانت المدينة المنورة، بتعاونها المخلص وتضحياتها الجسام، خير مكان لتكون هذه القاعدة المتينة. فقبل أن يطأ النبي صلى الله عليه وسلم أرضها، كان أهلها قد بايعوه على الإسلام، متطلعين إلى أن يكونوا جنودًا أوفياء في سبيل نشر دينه.
وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة البيئة الحاضنة التي يحتاجها، فكانت الهجرة إليها بمثابة انتقال من مكان الضيق إلى مكان الرحاب، ومن مكان الاضطهاد إلى مكان الأمن والأمان، ومن مكان العزلة إلى مكان التكاتف والتآخي.
وبذلك، فقد كانت الهجرة إلى المدينة المنورة نقطة تحول في تاريخ الإسلام، حيث انطلقت منه الدعوة الإسلامية لتشمل العالم أجمع، فكانت المدينة المنورة هي القبلة التي يتجه إليها المسلمون من كل فج عميق، وهي المدرسة التي تخرج منها الدعاة والمجاهدون، وهي الحصن الحصين الذي يحمي الإسلام وأهله.
كيف هاجر الرسول ﷺ من مكة إلى المدينة؟
لم يكن قرار الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة مجرد انتقال جغرافي عادي، بل كان تحولا تاريخيا عظيما حمل في طياته حكمة إلهية وتدبيرا ربانيا. فلم يكن هذا القرار وليد اللحظة أو نتاج اندفاع عاطفي، بل كان نتاج تفكير عميق وتخطيط دقيق، استند إلى رؤية نافذة للمستقبل ووعي عميق بأبعاد الحدث وآثاره.
إن قرار الهجرة لم يكن قرارًا فرديًا، وإنما كان قرارًا جماعيًا، اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم بالتشاور مع أصحابه الكرام، واستنادًا إلى آيات قرآنية وأحاديث شريفة بينت لهم الحكمة من هذه الهجرة وأهدافها السامية.
وليس أدل على أهمية هذا القرار وحساسيته من أنه لم يكن وليد الظروف العاجلة أو الضغوط المفاجئة، بل كان نتيجة لتراكم الأحداث وتزايد الأذى الذي كان يلاقيه المسلمون في مكة المكرمة. فقد كان المسلمون يعانون من الاضطهاد والتعذيب والتهجير، وكانوا يواجهون مقاومة شرسة من قريش المشركين.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة إلى المدينة المنورة هي الحل الأمثل لبناء مجتمع إسلامي قوي ومتماسك، قادر على نشر دعوة الإسلام وحماية المسلمين.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائدا عظيما ورجل دولة حكيما، فقد قام بتخطيط دقيق للهجرة، ووضع الخطط اللازمة لضمان نجاحها، والتي يمكن تعدادها الآتي:
- السرية: كان قرار الهجرة قرارًا سريًا إلى أقصى حد، ودقيقًا إلى أبعد مدى.
- اختيار الوقت المناسب للهجرة: بعد تحليل البيئة الداخلية.
- المشاركة والتشاور في وضع الخطة: لم ينفرد الرسول ﷺ باتخاذ قرار الهجرة بل أشرك الجميع في صناعة القرار واتخاذه.
- تجهيز المكان المراد الهجرة إليه (المدينة المنورة): من خلال تحليل البيئة الخارجية من كل الجوانب: دينيًا وأمنيًا واقتصاديًا.
- إعداد وسائل ومتطلبات الهجرة: من موارد بشرية ومادية ومعنوية.
- تحديد آليات الهجرة: في الخروج من مكة إلى المدينة، وما أحاطها من ظروف المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان.
- تحديد الهدف الأسمى للهجرة: إذ لم يقرر الرسول ﷺ الهجرة بين ليلة وضحاها، وإنما كانت هناك محاولات للإصلاح والتكيف مع الوضع في مكة.
- رسم خارطة طريق الهجرة: من خلال دراسة مسبقة شملت كل النواحي لعملية انتقال سلس دون مخاطر أو مضاعفات.
- توزيع الأدوار على الصحابة والتابعين: وفق قاعدة الشخص المناسب في المكان المناسب (مثل: عبد الله بن أبي بكر في الاستطلاع وتقصي الأخبار، عامر بن فهيرة للتمويه ومحو الآثار، أسماء بنت أبي بكر للمؤونة والإطعام، عبد الله بن أريقط الليثي وهو غير مسلم كدليل طريق..).
- في مسار عملية الهجرة كما في ما قبلها وما بعدها: اتبع الرسول ﷺ أسلوب الشفافية والواقعية والمرونة والوضوح.. الأمر الذي سهل إلى حد كبير من مهمته وساهم في نجاحها.
متى كانت الهجرة النبوية
هاجر رسول الله ﷺ من مكة إلى المدينة في اليوم السابع والعشرين من صفر من السنة الثالثة عشر للبعثة، والذي يوافق اليوم الثالث عشر من الشهر التاسع من عام 622 ميلادية.
هاجر النبي ﷺ من مكة المكرمة ليلة الجمعة، ولبث في غار ثور ليلة الجمعة والسبت والأحد، ومن ثمَّ انطلق ليلة الإثنين في الأول من الشهر الثالث من السنة الرابعة عشر من البعثة، الموافق لليوم السادس عشر من الشهر التاسع لعام 622 ميلادية إلى المدينة المنورة.
وصل إلى قباء في يوم الإثنين، الثامن من الشهر الثالث للعام الرابع عشر من البعثة، الموافق للثالث والعشرين من الشهر التاسع لعام 622 ميلادية، ووصل المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول.
ويعتبر مسار الهجرة النبوية هو المسار الذي سلكه النبي محمد وصحبه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة تجنبًا لأذى زعماء قريش وكيدهم. بدأ من دار السيدة خديجة زوجة الرسول ﷺ وفترة الاختباء في غار ثور ثلاثة أيام حتى منطقة قباء بالمدينة المنورة آخر محطات الركب النبوي.
يقدّر طريق الهجرة النبوية بـ 380 كيلومترًا قطعها الركب النبوي في ثمانية أيام. ذكرت الروايات التي وصفت المعالم المكانية لطريق الهجرة النبوية 29 معلمًا متفق عليها وتختلف في تعدادها من راوي إلى آخر، ووردت في كتب ابن إسحاق وابن سعد وابن خرداذبة والطبري وابن حبان والأزهري والإدريسي والحاكم وابن حزم وابن عبد البر والبكري وابن الأثير، والحموي وابن منظور والنويري وابن كثير والذهبي والعصامي والأنصاري والبلادي.
بعد أن رسم النبي وصحابته مسير الهجرة للأيام الثلاثة الأولى وبعد أن جهّز أبو بكر الصديق راحلتين منذ أكثر من 4 أشهر من اليوم الأول للهجرة، بدأ طريق الهجرة النبوية من منزل السيدة خديجة والحزورة، ثم منزل أبي بكر الصديق وغار ثور خلال الأيام الثلاثة الأولى، إلى غاية اليوم الثامن للهجرة وهو يوم الإثنين الموافق للثامن من ربيع الأول في السنة الأولى للهجرة.
بدأ من الجثجاثة وانتهى بالمبيت في منزل أبي أيوب الأنصاري بالمدينة المنورة. بعد اجتياز جبل حمراء الأسد، ثم طريق الظبي الموصل إلى حي العصبة ثم ديار بني أنيف ثم إلى قباء وهي المحطة النهائية في مسار الهجرة النبوية.