تمثل عمارة المساجد جوهرةً ساطعة في تاج الفن المعماري الإسلامي، حيث تتجلى فيها عبقرية المهندسين المعماريين المسلمين عبر التاريخ. تتميز هذه العمارة بخصائص معمارية فريدة، أبرزها القباب الشاهقة والأقواس الرشيقة التي تضفي عليها رونقاً خاصاً، بالإضافة إلى الأسواق المحيطة بها والتي كانت تمثل القلب النابض للحياة الاجتماعية والاقتصادية في المدن الإسلامية.
ومع ذلك، فإن العمارة الإسلامية تتجاوز حدود بناء المساجد لتشمل تشييد مجموعة متنوعة من المباني التي تلبي الاحتياجات المعيشية والثقافية للمجتمع الإسلامي، كالقصور والحمامات والمدارس والكليات.
ويمثل المسجد، قلب هذه الحضارة، أكثر من مجرد مكان للعبادة، فهو المركز الثقافي والاجتماعي للمسلمين، حيث يتجمعون فيه لأداء الصلاة ومناقشة شؤون دينهم ودنياهم، وتبادل الأفكار والمعارف. ويعود تاريخ المسجد إلى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان بيته صلى الله عليه وسلم أول مسجد بني في الإسلام، وقد شكل هذا البيت البسيط النواة الأولى للعمارة الإسلامية، حيث استوحي منه المسلمون فيما بعد العديد من التصاميم والزخارف التي أضفت على مساجدهم رونقاً خاصاً.
أنواع عمارة المساجد
يمكن تقسيم المساجد وتصنيفها على عدة معايير، وفيما يلي تقسيمها بناءً على الحجم والشكل:
أنواع المساجد بناءً على الحجم
بناءً على الحجم يوجد نوعين من المساجد، وهي المسجد الجامع الذي يُصمّم خصيصًا لاستيعاب أعداد كبيرة من المصلين، وقد أطلق عليه هذا الاسم لجمعه شمل المسلمين في منطقة معينة، وتوفير فضاء واسع لأداء الصلوات والفعاليات الدينية المختلفة. وعلى النقيض من ذلك، نجد المسجد الأصغر من ناحية الحجم فهو المخصص لمجموعة عرقية محددة أو حي سكني معين، وتلبي احتياجاتهم الدينية اليومية.
أنواع المساجد بناءً على الشكل
يمكن تصنيف المساجد بناء على ثلاثة أشكال أساسية، وهي كما يلي:
- مساجد الأعمدة
تعتبر مساجد الأعمدة من أقدم وأكثر أنواع المساجد انتشاراً في العالم الإسلامي، وقد استمدت تصميمها الأساسي من بيت النبي محمد صلى الله عليه وسلم. تتميز هذه المساجد ببساطتها وعظمتها في الوقت ذاته، حيث تتكون بشكل عام من قاعة صلاة مستطيلة الشكل تدعمها صفوف منتظمة من الأعمدة، وفناء داخلي واسع يسمى الصحن، ومئذنة ترتفع شامخة في أحد أركان المسجد.
يقدم الجامع الكبير بمدينة القيروان في تونس مثالاً صارخاً على هذا النوع من المساجد، حيث يمتد على مساحة شاسعة ويتكون من قاعة صلاة ضخمة ذات أعمدة كثيفة، وصحن فسيح تحيط به أروقة، ومئذنة ذات ثلاث طبقات. ولا يقتصر استخدام الأعمدة على القاعة الرئيسية فحسب، بل تمتد إلى باحات المسجد الداخلية لتضفي عليه رونقاً خاصاً.
وفي بعض هذه المساجد، توجد مقصورة مخصصة للحاكم أو لأمير المؤمنين تقع عادةً على الجانب الأيمن من المحراب، وإن كانت لا تعد مكوناً أساسياً في جميع المساجد. وقد استمر هذا النمط المعماري في الانتشار في مختلف البلدان الإسلامية لقرون عديدة، حيث اعتمد المهندسون المسلمون على مخطط الأعمدة كأساس لبناء العديد من المساجد العظيمة مثل جامع قرطبة وغيره.
ويبقى مسجد الأعمدة شاهداً حياً على عراقة العمارة الإسلامية وتطورها عبر العصور، حيث استطاع المسلمون من خلاله أن يجمعوا بين البساطة والجمال، والقوة والروعة.
- المساجد ذات الإيوان الأربعة
شهد القرن الحادي عشر ميلادًا لنوع جديد من المساجد أثرى التراث المعماري الإسلامي، ألا وهي المساجد ذات الأربعة إيوانات. والإيوان، ذلك العنصر المعماري الفريد، هو عبارة عن قاعة واسعة مفتوحة من جهة واحدة على فناء المسجد، تتزين بسقف مقبب يعلوها.
قبل أن تتألق في المساجد الإسلامية، كان الإيوان جزءًا أصيلاً من العمارة الفارسية، حيث ارتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور الفن المعماري في تلك المنطقة. ومع مرور الزمن، استمر استخدام الإيوان في العمارة الإسلامية، حتى بلغ ذروته في القرن الحادي عشر حيث شهدت إيران تحولًا ملحوظًا في تصميم المساجد، فبدأت المساجد التقليدية ذات الأعمدة تتلاشى لتفسح المجال لمساجد جديدة تتألق بأربعة إيوانات فسيحة.
ومن أبرز الأمثلة على هذا النمط المعماري الرائع، المسجد الجامع الكبير في مدينة أصفهان الإيرانية، الذي يعتبر تحفة معمارية فريدة تجمع بين الأصالة والجمال. ففي هذا المسجد، نجد أن الإيوان، الذي غالبًا ما يواجه القبلة، يتكرر أربع مرات حول الفناء، مما يخلق تناسقًا هندسيًا بديعًا ويوفر مساحات واسعة للعبادة والتجمع.
وبذلك، أصبحت المساجد ذات الأربعة إيوانات رمزًا بارزًا للعمارة الإسلامية، وشهدت انتشارًا واسعًا في العديد من البلدان الإسلامية، مؤكدةً بذلك عمق التأثير الفارسي على التراث المعماري الإسلامي.
- المساجد ذات المخطط المركزي
يشكل النمط المعماري للمساجد ذات المخطط المركزي تحفة فنية فريدة في العمارة الإسلامية، لا سيما العثمانية. فبعد أن أبدع المهندس المعماري العثماني معمار سنان في تصميم قبة آيا صوفيا الشهيرة، سعى إلى ابتكار أسلوب جديد للمساجد العثمانية يضاهي روعة هذا الصرح المعماري.
ولما كان نمط الإيوانات الأربعة سائداً في المساجد العثمانية آنذاك، فقد انحرف سنان عن هذا التقليد وابتكر نمط المخطط المركزي الذي يتميز بقبة ضخمة تغطي مساحة داخلية واسعة ذات شكل ثماني الأضلاع. وتحيط بهذه المساحة ثمانية أرصفة ضخمة تدعم القبة وتضفي على الفضاء الداخلي شعوراً بالاتساع والروعة.
ولم يكتفِ سنان بهذا، بل أضاف إلى تصميمه لمسات فنية بديعة تتمثل في الأقواس الصغيرة والكبيرة التي تؤطر فتحات للتهوية وتسمح بدخول الضوء الطبيعي إلى باطن المسجد، مما يخلق أجواءً من السكينة والصفاء.
وقد جرب سنان هذا النمط المعماري في سلسلة من المساجد التي شيدها في إسطنبول، حتى بلغ ذروة إبداعه في مسجد سليم الثاني بأدرنة، والذي يعتبر تحفة فنية معمارية لا تضاهى، حيث جمعت بين الفخامة والبساطة، والعظمة والرقي، لتشكل نموذجاً يحتذى به في العمارة الإسلامية حتى يومنا هذا.
السمات المشتركة في عمارة المساجد
على اختلاف أشكال المساجد وأنواعها، فلها سمات مشتركة، وهي كالآتي:
- فناء المسجد (الصحن): وهو المساحة الكبيرة المفتوحة المجاورة لقاعة الصلاة الكبيرة، ويوجد فيها غالبًا نافورة، يمكن الشرب منها أو استخدام مياهها للوضوء.
- المحراب: هو مكان موجود على أحد جدران المسجد، يشير إلى اتجاه القِبلة في مكة المكرمة، ويُطلق على الجدار الذي يُقام عليه المحراب اسم جدار القِبلة.
- المئذنة: هي برج عالٍ مجاور للمسجد أو متصل به، يُستخدم لإعلان الصلاة، والمئذنة من الأشكال المعمارية الدالة على وجود مسجد والتي توحي إلى الدين الإسلامي مباشرةً، وعلى العموم تتخد المآذن أشكالًا عدّة، وقد يوجد في المسجد أكثر من مئذنة.
- القبّة: قد يحتوي المسجد على قبة واحدة أو أكثر، وللقبة أهمية كبيرة من داخل المسجد إذ إنها ترمز إلى قبو الجنة، وغالبًا ما تكون مليئة بالزخارف التي تؤكد على رمزيتها هذه، وتتخذ الزخارف الإسلامية داخل المساجد أشكالًا هندسية، أو نباتات معقدة، أو أشكالًا نجمية.
- مفروشات المساجد: تشترك المساجد في مفروشاتها أيضًا، مثل إفريز خطي كبير فوق المحراب، والإفريز هو شريط زخرفي، والنقوش الخطية الموجودة عليه تكون اقتباسات من القرآن الكريم في معظم الأحيان، وتوجد في المساجد أيضًا مصابيح مزخرفة معلقة، وسجاد.