يمتد سور الصين العظيم، ذلك المعلم التاريخي العظيم، آلاف الأميال على طول الحدود الشمالية التاريخية للصين، شاهداً على عظمة الحضارة الصينية وتاريخها العريق. وقد بُني هذا السور الضخم على مدى قرون متتالية بأيدي آلاف العمال، بأمر من أباطرة الصين الذين سعوا جاهدين لحماية أراضيهم من الغزوات المتكررة.
وعلى الرغم من شهرته الواسعة التي تجاوزت حدود الصين، والتي جعلت منه أحد عجائب الدنيا، إلا أن هناك العديد من المغالطات التاريخية التي لازمت هذا الصور العظيم، والتي ما زالت تتردد على ألسنة الكثيرين. ومن أشهر هذه المغالطات تلك التي تزعم إمكانية رؤية سور الصين العظيم بالعين المجردة من الفضاء الخارجي.
ورغم أن هذه الفكرة قد ترسخت في أذهان الكثيرين، إلا أنها مجرد خرافة لا أساس لها من الصحة. فالحقيقة هي أن سور الصين العظيم، رغم طوله الشاهق، لا يمكن تمييزه بسهولة من المدار الأرضي المنخفض، بل يختلط بالأرض المحيطة به لدرجة يصعب معها تمييزه، خاصة وأن المواد التي بُني منها تشبه إلى حد كبير الصخور والتراب الموجودين في المنطقة.
وقد أكد رائد الفضاء الصيني يانغ ليوي هذه الحقيقة خلال رحلته الفضائية في عام 2003م، حيث صرح صراحة بعدم قدرته على تحديد أي جزء من السور بالعين المجردة من المدار.
ما هو هذا الجدار؟
يعد سور الصين العظيم أحد أبرز المعالم التاريخية في العالم، وهو سلسلة من التحصينات والجدران التي امتدت على طول الحدود الشمالية للصين، وقد بدأ بناؤه قبل حوالي خمسة قرون لحماية الإمبراطوريات الصينية المتعاقبة من الغزوات الشمالية.
وعلى الرغم من أن التقديرات الأولية لطول هذا السور كانت تتراوح بين 2778 و9260 كيلومتر، إلا أن الدراسات الأثرية الحديثة التي أجرتها إدارة الدولة الصينية للتراث الثقافي عام 2012 كشفت عن أن الطول الكلي للسور يصل إلى حوالي 21 ألف كيلومتر.
ويعود سبب هذا التفاوت في التقديرات إلى أن جزءًا كبيرًا من السور، والذي يقدر طوله بحوالي 9260 إلى 10186 كيلومتر، قد بني خلال عهد سلالة مينغ، والتي شهدت بناء أضخم وأقوى أقسام السور.
أما الطول الكلي الذي يبلغ حوالي 24076 كيلومتر فهو يشمل جميع الأجزاء والامتدادات التي بنيت على مر العصور، والتي لا تتساوى جميعها في قوة البناء والمواد المستخدمة، حيث يتكون بعضها من صخور وأخشاب وتربة ومواد أخرى أقل متانة.
كيف نشأت فكرة الجدران؟
حياة المغول في السهول الشاسعة، بعيداً عن الأراضي الخصبة، فرضت عليهم نمط حياة معيناً ارتكز على تربية المواشي وترحال البحث عن المراعي.
هذا النمط الحياتي، وإن كان قد أكسبهم مهارات ركوب الخيل وقوة البدن، إلا أنه حصر قدرتهم الزراعية في نطاق ضيق جداً. ولذلك، وجد المغول أنفسهم مضطرين للتجارة مع الدول المجاورة، لا سيما الصين، للحصول على ما يحتاجونه من الغذاء والحرف اليدوية.
فكانوا يرسلون قوافل تجارية محملة بالخيول القوية والسرعة، والتي كانت مرغوبة جداً لدى الصينيين لاستخدامها في الحروب، مقابل الحصول على الحرير والقطن والمنسوجات المختلفة التي اشتهرت بها الصين، بالإضافة إلى المعادن الثمينة اللازمة لصناعة الأسلحة والدروع. وبالمثل، كانت القبائل البدوية الشمالية الأخرى تسعى للحصول على هذه المنتجات الصينية، مما زاد من الطلب عليها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من هذه الحاجة الملحة للسلع الصينية، فإن المغول كانوا يتمتعون بقدرة تفاوض محدودة، حيث كانت الصين تمتلك موارد غذائية وفيرة وخيولاً كافية لتلبية احتياجاتها، بينما كان المغول يعتمدون بشكل كبير على التجارة لتأمين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والملبس.
هذا التفاوت في القوى الاقتصادية أدى إلى خلق حالة من التبعية التجارية للمغول تجاه الصين، مما أثر على علاقاتهم التجارية مع الدول المجاورة الأخرى.
كانت العلاقة بين البدو الشماليين والصينيين قائمة على مبدأ “التجارة كالحرب”. فبالرغم من قلة عددهم مقارنة بالصينيين، إلا أن البدو شكّلوا تهديدًا عسكريًا خطيرًا، حيث اعتمدوا على حرب العصابات والغارات المفاجئة لفرض إرادتهم.
كانت هذه الغارات، التي نفذها البدو، ثم المغول لاحقًا، تهدف إلى الحصول على الغنائم والسلع التي يحتاجونها، مما أدى إلى إرهاق السكان الصينيين وتعطيل حياتهم. ولحماية أنفسهم من هذه الهجمات المتكررة، لجأ القادة الصينيون إلى بناء سلسلة من الحواجز الدفاعية على طول الحدود الشمالية.
يعود تاريخ أقدم هذه الحواجز إلى آلاف السنين، حيث تم بناء جدار من التراب الصلب في مقاطعة شاندونغ، يُقدر عمره بنحو 2500 عام. ومع مرور الوقت، تطورت هذه الحواجز إلى سور ضخم من الحجر، هو سور الصين العظيم الذي نعرفه اليوم.
وعلى مدى قرون، وخلال فترة الممالك المتحاربة، لعب هذا السور دورًا حيويًا في حماية الصين من الغزوات الشمالية، حيث شكل خط دفاع متين ضد القبائل الرحل التي كانت تسعى للاستيلاء على أراضيها وثرواتها.
من قام ببناء الجدار؟
كان بناء هذا السور الشاهق مشروعًا ضخمًا استمر لقرون، وساهم فيه ملايين العمال على مدى أكثر من 1000 عام. بدأت قصة بناء السور في عهد أسرة تشين، حيث قاموا بوضع الأساس الأول لهذا الصرح العظيم، ثم تبعتهم سلالات أخرى واصلت العمل عليه، كل حسب ظروفها وقدراتها.
إلا أن أسرة مينغ هي التي قامت بإعادة بناء السور وتوسيعه بشكل كبير، وأغلب ما نراه من السور اليوم يعود إلى هذه الفترة. وقد استخدم البناؤون في ذلك الوقت المواد المتاحة محليًا، فاستخدم الفلاحون والعبيد والمجرمون الذين أُجبروا على العمل، إلى جانب الجنود، المواد المتوفرة مثل الأوساخ المضغوطة والأحجار لبناء الأجزاء القديمة من السور.
أما في عهد أسرة مينغ، فقد استخدم الطوب بشكل أكبر في البناء، كما استخدموا مزيجًا من الأرز المصمت الذي يضاهي قوة الإسمنت في بعض الأجزاء، مما زاد من متانة وقوة السور ومكنه من الصمود أمام عوامل الزمن.
ورغم عظمة هذا الإنجاز الهندسي، إلا أن ثمنه كان باهظًا، فقد عمل ملايين الأشخاص في ظروف قاسية على بناء هذا السور، وتعرضوا للمعاناة والمرض، وتشير التقديرات إلى أن حوالي مليون شخص قد لقوا حتفهم خلال فترة البناء.
وبهذا، فإن سور الصين العظيم ليس مجرد بناء معماري، بل هو شهادة على عظمة الإنسان وقدرته على الإنجاز، وعلى نفس الوقت هو تذكير بتضحيات وعذابات ملايين الأشخاص الذين ساهموا في بنائه.
حقائق عن سور الصين العظيم
الصينيون لا يطلقون عليه اسم سور الصين العظيم!
في الواقع، لدى الصينيين اسمٌ آخر يطلقونه على سور الصين العظيم، ويعود المصطلح الصيني للجدار إلى ماضٍ بعيد، عندما كان لكل مدينة سورها الخاص، فاختار الصينيون اسمًا يغطّيها جميعًا على حدٍّ سواء، فالاتصال بين هذه الأسوار والمدن كان أساسيًّا لدى الصينيين في ذلك الوقت وإلى الآن.
وهذا الاسم هو تشانج تشينج “cháng chéng”، وحسب القاموس المختصر القياسي لمطبعة اتحاد اكسفورد فإنّ كلمة “cháng” تعني: المدينة أو سور المدينة، وكلمة “chéng” تعني: الطويل، أيّ أنّ الصينيين يطلقون اسم المدينة/ المدن الطويلة أو السور الطويل/ الجدران الطويلة على سور الصين العظيم.
الجدار ليس قديمًا!
إنّ الهيكل الحجري ذي الأسوار الذي يُمثّل الصورة الذهنيّة الشائعة لسور الصين العظيم، ليس إلّا جزء من الجدار، والذي بنته أسرة مينغ في الفترة ما بين (1358-1644)، أي أنّ عمره يبلغ حوالي 500 عام فقط بالمقارنة مع أجزاء السور القديمة التي هي عبارة عن كومة حجارة مدكوكة من الأرض والتي تعود إلى زمن توحيد الصين لأول مرة أي إلى ما بعد 221 قبل الميلاد.
أي أنّ سور الصين العظيم المشهور، ليس هو الذي بُني قبل 2000 عام، وليس قديمًا كما هو الاعتقاد السائد.
هو ليس جداراً!
ما يُشاهَد غالبًا في الصور السياحيّة للسور الذي يتكوّن من حجرٍ وطوب لا تُمثّل إلّا جزءًا منه، أمّا باقي أجزاءه وخصوصًا في الغرب فهي عبارة عن كومة حجارة مدكوكة في تضاريس من الأرض تشبه حدبات الجمال، وفي بعض الأحيان تلّة أو جُرُف، وفي أحيانٍ أخرى لا شيء من هذا كلّه، كما أنّ السور لا يتكوّن فقط من جدران؛ فهناك الحصون والثكنات وأبراج الحراسة والمنارات.
لم يُبنى لصد المغول
أمر الإمبراطور الأول المتوفّى عام 210 قبل الميلاد ببناء السور قبل فترة طويلة من ظهور المغول حوالي 800 بعد الميلاد، وكان التهديد بعد ذلك من شيونغنو (Xiongnu)، وحدثت المواجهات مع المغول فقط في أواخر القرن الرابع عشر، وطُرد المغول على يد أسرة مينغ من الصين.
لا يوجد جثث مدفونة في الجدار
يُشاع منذ القِدَم أنّ هناك عمّالًا مدفونين في سور الصين العظيم، إلّا أنّه لم يُعثَر على أي عظام في السور ولا يوجد أي دليل مكتوب أو أثري على هذا الافتراء الذي يُقال أنّ مصدره كان من المؤرّخ الرئيسي لسلالة هان، سيما تشيان، الذي انتقد الإمبراطور في عصره من خلال إهانة سلفه كين.
للأسف لم يوقف الغزو!
رغم عظمة السور والجهود الكبيرة التي بُذِلَت في بناءه، إلّا أنّه لم يحقق الهدف الذي بُنيَ لأجله وهو ردع أي تهديد وغزو للصين؛ فقبائل البدو الشمالية اجتاحوا الجدار أو التفّوا حوله بسهولة، وقد ألحق المغول الهزيمة بمينغ جنوب الجدار في عام 1449م.
كما سقطت الصين في يد المانشو في عام 1644 رغم انتهاء أعمال البناء في السور، بسبب خيانة جنرال مخلي من مينغ بفتحه البوابة الشرقية البعيدة المسماة شانهايجوان (Shanhaiguan) للغزاة.
اتساعه غير كاف أحيانًا
سور الصين العظيم طويل ولكن عرضه يتفاوت من قطعة إلى أخرى حسب المناطق؛ فهو ليس واسع بما يكفي لخمسة خيول جنبًا إلى جنب إلّا في بعض الأقسام حول بكين الذي بُني كجدار وطريق، أمّا في الأجزاء الأخرى من جدار مينغ ولا سيّما التلال التي تمتد فوق قمم سيماتاي، فهي لا تكفي إلّا لشخص واحد، وفي غرب السور لا يوجد ممر للمشاة، وكان على الخيول والجنود السير على طول قاعدة السور.
الرحالة ماركو بولو عبره ولم يذكره!
في أواخر القرن الثالث عشر وهي الفترة التي تواجد فيها ماركو بولو، كانت الصين تحت حكم المغول، وكان السور في ذلك الوقت مُدمَّر من قِبَل الغزاة على يد جنكيز خان قبل أكثر من 50 عامًا، فلم تكن له أي أهمية دفاعية، وفي الواقع، رأى ماركو بولو السور عدّة مرات خلال عدّة مرات ومر من خلاله في رحلاته من بكين إلى قصر كويلاي خان في زانادو، ولكن لم يكن لديه سبب للإشارة إلى ذلك.