لا تكاد منطقةٌ تخلو من آثار الحضارات المختلفة، حيث إنّ الحضارة لها آثارٌ واضحةٌ في مختلف أنحاء الكرة الأرضيّة، فنرى آثاراً مختلفةً للحضارات الرومانيّة، والإغريقيّة، والإسلاميّة، في العديد من البقاع سواء داخل الوطن العربي أو خارجه، وعلى سبيل المثال فإننا نرى في مصر أعظم الآثار التي تركتها الحضارة الفرعونيّة. وقد يختلف الناس في تفسير معنى الحضارة، ومكوناتها، وكيف تنشأ، وكيف تنهار، وفي هذا المقال سنستعرض أبرز الأفكار المهمة حول مفهوم الحضارة.
تعريف الحضارة لغة:
تُعرَّف الحضارة لُغةً بأنّها كلمة مُشتقة من الجذر الثُلاثي (حَضَرَ)، ويُعرّفها الأصفهاني بأنّها عكس البدو، وعرَّفها مَجمع اللغة العربيّة في القاهرة بأنّها الرُقي الاجتماعي والأدبي في الحضر.
تعريف الحضارة اصطلاحاً:
أمّا اصطلاحاً تأثّر مفهوم الحضارة بالعديد من التطورات؛ ممّا أدّى إلى تنوع تعريفاتها ومفاهيمها، فعُرِّفت بأنّها نظام وبيئة اجتماعيّة تُساعد الأفراد على تطوير إنتاجهم الثقافيّ، ومن المفاهيم الأُخرى للحضارة هي عادة يُطبّقها الأفراد في حياتهم، كما تُعرَّف الحضارة بأنّها مجموعة من المحاولات البشريّة للتفكير والاختراع والاكتشاف الخاص بالطبيعة؛ بهدف الوصول إلى حياةٍ أفضل، والحضارة هي جميع النشاطات الإنسانيّة المُرتبطة مع نواحٍ مُختلفة؛ سواء دنيويّة أو دينيّة أو روحيّة أو ماديّة أو عقليّة.
صفات الحضارة
لا بدّ أن يكون هناك صفات للحضارة، وهذه الصفات تتمثّل فيما يأتي:
- إنّ الحضارة تتغيّر تدريجيّاً وليس بشكلٍ مفاجئ.
- من صفات الحضارة أنّها حضارةٌ إنسانيّةٌ، أي أنّها تختصّ بالإنسان دون غيره من الكائنات، وهذا ما يجمع بين مختلف الحضارات على الرغم من اختلافها عن بعضها البعض.
- إنّ الحضارة موجودةٌ في عقل الإنسان وتفكيره الذي يجعله يعلم أنّ ماضيه مرتبطٌ بحاضره.
- قد تأخذ الأمّة بعضاً من حضارات الأمم الأخرى.
- إنّ الإنسان لا يستطيع الابتعاد أو الهروب من مظاهر الحضارة التي يعيش فيها أو يحتكّ بها.
شروط الحضارة
أهمّ الشروط التي تؤدي إلى نشوء الحضارة:
- الاستقرار: يُقصد بالاستقرار عدم الانتقال من مكانٍ إلى آخر، ويُعدّ الاستقرار من العوامل الأساسيّة لتطوّر وازدهار الحضارات.
- التعاون: إنّ استقرار الإنسان في مكانٍ ما يجعله يحتاج إلى وجود تعاونٍ بينه وبين غيره ممّن يقيمون معه في البقعة الجغرافيّة نفسها، حتى يؤمّنوا سوياً الغذاء والحماية من أيّ خطرٍ قد يهددهم.
- الكتابة: من أجل أن يقوم الإنسان بالاتصال مع غيره قام باختراع الكتابة، فالكتابة مهمّةٌ ليحفظ الإنسان كلّ ما قام بعمله، وإبداعه، واختراعه، فيقوم بذلك بنقل أفعاله، وتجاربه، وأقواله إلى الأجيال الّتي تأتي من بعده.
دوافع ظهور الحضارة
لم يتّفق الفلاسفة والمُفكّرون على الدوافع والعوامل التي تؤدّي إلى إنشاء وظهور الحضارة، ولكن من الممكن تلخيص دوافع ظهور الحضارة وفقاً للآتي:
- حُبّ البقاء: هو اهتمام الإنسان في المحافظة على حياته؛ ممّا يدفعه للتعاون مع الأفراد الآخرين أثناء مواجهة خطر معين، مثل الحروب والزلازل والفيضانات.
- الحاجة للطعام: هي التي تدفع الإنسان للتعاون مع الأفراد الآخرين؛ من أجل الصيد وتأمين الطعام.
- الحاجة للشراب: هي دافع الإنسان للتعاون مع الأفراد الآخرين؛ من أجل الاستفادة من ماء الأنهار والآبار لتوفير الماء الصالح للشرب.
- الأبوة والأمومة: هو دافع الإنسان لإنجاب الأطفال، وتربيتهم وتوفير الحماية لهم.
نظريات نشوء الحضارات
هناك العديد من النظريات والآراء حول الحضارات وأسباب نشوئها، ومن أهمّ هذه النظريات:
- نظرية فيجر (Vigor): تتحدّث هذه النّظريّة عن وجود ثلاثة عصورٍ تمرّ بها الحضارة أثناء مراحل تطورها، وهذه العصور هي: عصر الأهلّة، وعصر البطولة، وعصر النّاس، وقد حدّد فيجر أنّ هذه العناصر تشترك فيها الحضارات أثناء نشوئها ونموّها.
- نظريّة شبينجلير (Sehpingler): تحدّث الفيلسوف الألمانيّ شبينجلير عن الحضارة في كتابه انحلال الغرب، حيث ذكر أنّها كالكائن الحيّ الّذي يمرّ بمراحل مختلفة في حياته من طفولة، وشباب، ونضوج، وشيخوخة.
- نظرية توينبي (Twinby Arnoled): تحدّث الفيلسوف الإنجليزيّ توينبي عن الحضارة في كتابه دراسة التاريخ، حيث يرى أنّ نشوء الحضارة عائدٌ إلى استجابة الإنسان لتحدّيات الطبيعة.
- نظرية ابن خلدون: يرى ابن خلدون أنّ جميع الحضارات التي نشأت كانت في بدايتها تعيش حياة بداوة، إلّا أنّها أخذت بالتوسع شيئاً فشيئاً حتى صارت عامرةً ومزدهرةً، ومع مرور الوقت يزول هذا الملك والعمران وينتقل إلى أمم أخرى.
أسباب اندثار الحضارة
ظهرت العديد من الآراء والأفكار حول الأسباب التي تؤدي إلى اندثار الحضارات؛ وخصوصاً القديمة منها، وفي ما يأتي بعض من أهمّ أسباب اندثار الحضارة:
- يرى أرنولد توينبي أنّ اندثار الحضارة ناتج عن الأسباب الآتية:
– ظهور انشقاق داخل المجتمع؛ عن طريق عدم وجود أي توافق بين الشعب والسلطة الحاكمة.
– ظهور البروليتارية؛ أي ظهور جماعة أو فئة جديدة وغريبة عن الحضارة؛ ممّا يؤدي إلى تعرضها للخطر.
- يرى الفيلسوف شبينقلو أن اندثار الحضارة يكون للأسباب الآتية:
– تحقيق كافة الإمكانيات الخاصة بها على شكل علوم ولغات ودول وشعوب؛ أي تحقيقها لصورتها النهائيّة.
– وجود تأثيرات روحية أكثر قوّة من روح الحضارة.
خصائص الحضارة
تتميّز جميع الحضارات البشريّة في العصور التاريخيّة المتنوعة بعدّة خصائص مُشتركة بينها وهي:
- انتشار المناطق السكّانية الكبيرة: فتتطور الحضارات نتيجةً لزيادة عدد سُكّانها، ويأتي لها المزارعون الذين يعيشون في أراضٍ بعيدةٍ عنها؛ من أجل بيع منتجاتهم.
- الاهتمام ببناء العمارة الفريدة والضخمة: هو سعي الحضارة إلى المحافظة على إرثها الذي يشمل بناء العديد من المعالم الخاصة بها؛ ممّا يُساهم في عكس طبيعتها بالماضي والتي مرّ عليها آلاف السنوات، ومن الأمثلة على المعالم والعمارة الحضاريّة الأهرامات في مصر.
- التميّز باللغة والكتابة: هي الرسالة التي تنقلها الحضارة عن نفسها، فتساعد الكتابة على تنظيم العمليات العامة والتّجاريّة وتطوير الأفكار، كما توفر للحضارة الوسائل التي تساعدها على تدوين وحفظ تاريخها، ومن الأمثلة على ذلك اللغة السومريّة التي تُعدّ أقدم اللغات المكتوبة، وانتشرت في حضارة ما بين النهرين.
- تطبيق نظام إداري فعّال للأقاليم، فمثلاً اعتمد الرومان على تطبيق مجموعةٍ من الوسائل الإداريّة، كبناء العديد من الطُرق التي تربط بين المناطق الرومانيّة، وإنشاء القنوات المائيّة التي توفر الماء النقي، ودعم انتشار وتعلّم اللغة اللاتينيّة.
- تقسيم العمل: هو تنفيذ أعمال مُعينة من أفراد معينين، فالحضارات المعتمدة على الزراعة يُدرك الأفراد فيها الوسائل المُناسبة لتطبيق الزراعة، أمّا الحضارات المُعتمدة على التّجارة فتميّزت بتقسيمها للعمل.
- توزيع الأفراد وفقاً لطبقات اجتماعيّة: هي تقسيم النّاس إلى قسمين بناءً على طبيعة العمل والدّخل، فمن الممكن تقسيم الأفراد وفقاً لطبقات اجتماعيّة تعتمد على دخلهم، فمثلاً كان التقسيم الغالب للحضارات في الغرب يشمل عدّة طبقات، وهي: الفقراء، والطبقة المتوسطة، وطبقة الأغنياء.
أهم الحضارات عبر التاريخ
لابد لنا من ذكر أهم الحضارات الّتي مرت عبر التاريخ والّتي من أهمّها:
- حضارة بلاد الرّافدين: حضارة بلاد الرافدين جزءٌ من حضارات الشرق الأدنى القديم، وأكثر ما يميّز هذه الحضارة أنهارها الكبيرة مثل نهر دجلة ونهر الفرات، هذان النهران لهما أثرٌ كبيرٌ في استقرار الناس، إضافةً إلى أنّ وجود نهريّ دجلة والفرات قد ساهم في تطوير حضارة بلاد الرافدين.
وقد ضمّت حضارة الرافدين العديد من الممالك المهمة مثل مملكة السّومريين، والآشوريين، والبابليين، ولهذه الممالك العديد من الملوك الذين كان لهم أكبر الأثر في تطوير حضارة بلاد الرافدين منهم آشور بانيبال ملك الآشوريين، وكذلك حمورابي المشهور بتشريعاته، وسرجون الملك الأكّادي.
- حضارة مصر القديمة: تتمركز حضارة مصر القديمة على جانبي نهر النيل، فهي واحدةٌ من أهمّ الحضارات في العالم وأقدمها، وبداية الحضارة المصرية كانت في عام 3150 قبل الميلاد، حيث وحّد الملك مينا في ذلك الوقت مصر بعد أن كانت منقسمةً إلى قسمين؛ مصر العليا ومصر السفلى، إلّا أنّه كان للمصريين القدماء إنجازاتٌ بالغة الأهمية فقد استطاعوا بناء أهراماتٍ ومعابد، وكان لهم بصمةٌ واضحةٌ في أنظمة الرّي والإنتاج الزراعي، كما أنّهم تركوا إرثاً حضاريّاً، وعلميّاً، وفنيّاً.
- حضارة وادي السند: عند الحديث عن الحضارات العالميّة العظيمة لا بدّ من ذكر حضارة السّند التي نشأت سنة 3300 قبل الميلاد، تلك الحضارة التي تمركزت حول نهر السّند، وتعرف هذه الحضارة باسم حضارة هارابا نسبةً إلى مدينة هارابا في الباكستان.
- حضارة الصين: امتدّت الحضارة الصّينيّة إلى مناطق مختلفة في العصر الحجري الحديث من النهر الأصفر ونهر يانغتزي، وتظهر بعض الآراء ترجيح نشأة الحضارة الصينيّة في البحر الأصفر.
- حضارة الإنكا: حضارة الإنكا هي أكبر الحضارات في أمريكا الجنوبية وقد كان الهنود الحمر هم من أسّسوا هذه الحضارة، وامتدّت هذه الحضارة حتى وصلت بوليفيا والبيرو وكذلك الأرجنتين والإكوادور.
- الحضارة الإسلاميّة: جاءت الحضارة الإسلاميّة لتعيد كثيراً من المعتقدات والأفكار التي كانت سائدةً عند الإنسان من قبل، وقد كان للحضارة الإسلاميّة أسسٌ كثيرةٌ أهمها عقيدة التوحيد التي لها دورٌ كبيرٌ في بناء المجتمع، إضافةً إلى العدل، والعمل، والعلم.
- الحضارات السوريّة: هي الحضارات التي وُجِدَت في الماضي على الأراضي السوريّة، وتشمل: الحضارة الآراميّة، والحضارة الكنعانيّة، والحضارة الفينيقيّة، والحضارة العموريّة.