سورة العنكبوت، تلك السورة القرآنية العطرة التي نزلت في مكة المكرمة، لتكون بشارةً ووعيدًا، وعظةً وحكمةً للمؤمنين في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الإسلام. وقد ذهب بعض المفسرين إلى اعتبار بداية السورة، أي الآيات من الأولى إلى الحادية عشرة، مدنيةً نظرًا لذكر الجهاد فيها.
إلا أن الرأي الراجح هو أن السورة مكية بالكامل، وذلك لأن الجهاد المذكور فيها هو الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس والأهواء، وليس الجهاد الأصغر الذي هو القتال بالسيف.
وقد نزلت هذه السورة في الفترة التي سبقت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وهي الفترة التي اشتد فيها أذى المشركين للمسلمين، فكانت السورة بمثابة القوة والضياء التي تنير قلوب المؤمنين وتثبت أقدامهم على الحق.
وقد تضمنت السورة العديد من المعاني العظيمة والأحكام الكريمة، والتي تحث على الصبر والثبات على الدين، وتذكّر المؤمنين بنعم الله عليهم، وتبين لهم حقيقة الإيمان والكفر، وتحثهم على الجهاد في سبيل الله، سواء كان جهاداً بالمال أو بالنفس أو باللسان. وتبلغ آيات هذه السورة التكريمية تسعاً وستين آية.
تحتل سورة العنكبوت منزلة بارزة في ترتيب سور القرآن الكريم، حيث تأتي في المرتبة التاسعة والعشرين. وهي من أواخر السور التي نزلت على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة. وتعتبر سورة العنكبوت السورة الثالثة والثمانين بين السور المكية نزولاً، مما يشير إلى قرب نزولها من فترة الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة.
ولا يفصل بين سورة العنكبوت وبين سورة المطففين، وهي آخر سورة مكية نزولاً، سوى فترة زمنية قصيرة، مما يدل على كثافة الوحي وتواتره في تلك الفترة العصيبة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
سبب التسمية بسورة العنكبوت
سُميّت سورة العنكبوت بهذا الاسم لأنّ الله -تعالى- اختصّ هذه السّورة بذكر مَثَل العنكبوت فيها؛ قال الله -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، فشبّه الله تعالى الكافرين الذين يصنعون الأصنام بأيديهم ويتخذونها آلهة لهم من دون الله -تعالى-، بالعنكبوت الذي يتّخذ ويصنع لنفسه بيتاً ضعيفاً.
سبب نزول سورة العنكبوت
للعلماء أقوال ثلاثة في سبب نزول سورة العنكبوت؛ سنُبيّنها فيما يأتي:
- القول الأوّل: نزلت سورة العنكبوت في مجموعة من النّاس في مكّة المكرمة، كانوا قد أقرّوا وآمنوا بالدّين الإسلاميّ، فبعث لهم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه لن يُقبل إقرارهم بالإسلام حتى يهاجروا إلى المدينة المنوّرة، فانطلقوا مهاجرين إلى المدينة، وذهب المشركون من خلفهم فألحقوا بهم الأذى وأرجعوهم إلى المدينة، وعلموا بنزول هذه الآيات فيهم، ليخرجوا بعد ذلك مصمّمين على الهجرة والقتال مع المشركين؛ فمات بعضهم، ونجا بعضهم الآخر، ثم نزل قول الله -تعالى-: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
- القول الثّاني: نزلت سورة العنكبوت في شخصٍ يُسمّى “مهجع”، وهو مولى عمر بن الخطّاب -رضيَ الله عنه-، حيث قُتل في معركة بدر، بسهم عامر بن الحضرمي، وحزن عليه والديه وزوجته كثيراً فأنزل الله -تعالى- سورة العنكبوت تثبيتاً لهم وللمؤمنين.
- القول الثالث: نزلت سورة العنكبوت في الصّحابي عمّار بن ياسر – رضيَ الله عنه- حين كان يُعذِّبه المشركين.
موضوعات سورة العنكبوت
تحدّثت آيات سورة العنكبوت عن موضوعات كثيرة، نذكرها فيما يأتي:
- أمور العقيدة، والبعث، والتّوحيد، والجزاء الأخروي.
- جزاء المؤمنين الصّابرين بالجنّة لتثبيت قلوبهم على الدّين الحقّ عند البلاء والفتن التي تُحيط بهم.
- تحدّثت في بدايتها عن الفتن المحيطة بالإنسان، واختُتمت بالحديث هداية نفوس المجاهدين، وتأيّيد ونصرة الله -تعالى- لهم.
- قصص الأنبياء السّابقين، وطُغيان أقوامهم، ونُصرة الله -تعالى- لأنبياءه ومن آمن معهم.
- حثّ المؤمنين على التبرُّؤ من المشركين، والابتعاد عنهم وعن ظلمهم وعدوانهم، وبإمكانهم الابتعاد عن الكافرين؛ إذ إنَّ أرض الله -تعالى- واسعة.
بيت العنكبوت
شبّه الله تعالى في سورة العنكبوت من يتّخذون أولياء من دون الله تعالى، ويحبّونهم، ويرفضون حبّ الله تعالى وحبّ رسوله عليه الصلاة والسلام، شبّههم بالعنكبوت التي اتّخذت بيتاً لها تحتمي به، ظانّةً أن البيت يحقّق الأمن والأمان لها، إلا أنه في الحقيقة بيت شديد الوهن، سهل الخراب، وذلك مثل الذي يعمل عملاً ما يظنّ أنه عمل خير وصلاح، ويفني عمره في هذا العمل، إلا أنه يكتشف أنه عمل خراب في نهاية المطاف.