تُعدُّ سورة المدثر من أوائل السور التي نزلت على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهي تحمل في طياتها أهمية بالغة في فهم بداية الدعوة الإسلامية وتطورها. إن تتبع أسباب نزول هذه السورة المباركة يفتح لنا نافذة واسعة على تلك الحقبة الزمنية الفارقة، حيث بدأ نور الإسلام ينبعث من شبه الجزيرة العربية ليضيء العالم أجمع.
سُمِّيت سورة المدثر بهذا الاسم لكون الله تعالى قد افتتحها بوصف نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بـ”المدثر”. وهذا اللقب يحمل دلالة عميقة على الحالة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، ومن الجدير بالذكر أن كلمة “المدثر” مشتقة من الفعل “دثر”، والذي يعني التغطية أو الالتفاف بالثياب للتدفئة والنوم. وقد استخدم هذا اللفظ هنا في سورة المدثر ليوحي بحالة النبي صلى الله عليه.
سبب نزول سورة المدثر
كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد اعتزل في غار حراء مدة شهر، وعندما انقضت المدة وأراد العودة إلى بيته فإذ به يسمع صوتا يناديه، فالتفّ من حوله ونظر عن يمينه وعن شماله فلم يرَ أحداً، ثمّ سمع الصوت يناديه مرة أخرى، فما أن رفع -عليه الصلاة والسلام- رأسه إلّا وقد رأى جبريل -عليه السلام- على العرش في الهواء.
ففزع رسول الله وعاد إلى بيته وهو يقول: “دثروني، دثروني”، فأنزل الله -تعالى- سورة المدثر، وقد دلّ على ذلك قول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (جاوَرْتُ بحِراءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوارِي نَزَلْتُ فاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الوادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمامِي وخَلْفِي، وعَنْ يَمِينِي، وعَنْ شِمالِي، فَلَمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا هو علَى العَرْشِ في الهَواءِ، يَعْنِي جِبْرِيلَ عليه السَّلامُ، فأخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ ماءً، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: يا أيُّها المُدَّثِّرُ).
مكان وزمان نزول سورة المدثر
تُعد سورة المدثر من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، حيث كانت بداية الدعوة الإسلامية تشهد أشد مراحل التحدي والصراع. وتبلغ آيات هذه السورة المباركة ستة وخمسين آية، مما يجعلها من السور المتوسطة الطول.
وقد جاء ترتيبها في المصحف الشريف بعد سورة المزمل وقبل سورة الفاتحة، وهو ترتيب يحمل في طياته دلالة على الترابط الوثيق بين هذه السور الثلاث، ويرى الكثير من المفسرين أن هذا الترتيب المتسلسل للسور الثلاث ليس من قبيل المصادفة، بل هو دليل على ربط الله تعالى بين هذه المراحل الهامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من خلال وجوه ثلاثة، وهي كما يأتي:
- افتتاح كلتا السورتين بنداء رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.
- نزول صدر كلتا السورتين في قصة واحدة.
- ابتداء سورة المزمل بأمر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بقيام الليل الذي يعدّ بمثابة الإعداد النفسي حتى يصبح داعياً إلى الله -تعالى-، ثمّ ابتدأت سورة المدثر بأمره -صلّى الله عليه وسلّم- بالبدء بالدعوة إلى الله -تعالى-.
مقاصد سورة المدثر
احتوت سورة المدثر على العديد من المقاصد، ومنها ما يأتي:
- تكريم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، وتكليفه بالدعوة إلى الله -تعالى-، وتبليغ رسالته.
- الدعوة إلى عبادة الله -تعالى- وحده وترك عبادة الأصنام ونبذها.
- الأمر بالصبر والحثّ على الإكثار من الصدقات.
- إثبات البعث وإنذار المشركين من إنكاره.
- وصف يوم القيامة والحديث عن أهوال جهنم.
- المقابلة بين حال المؤمنين أهل الصلاة والزكاة، وبين حال المشركين الذين أنكروا البعث وكفروا به واستخفوا بجهنم وعدد حفظتها.