صلاح الدين يوسف بن أيوب، من أعظم القادة المسلمين في التاريخ، والبطل العربي الكردي الأصل. عرف في تاريخنا الإسلامي بالملك الناصر، أو السلطان صلاح الدين الأيوبي.
ولد هذا القائد الفذ في العام 1137 ميلادياً في تكريت، تلك المدينة العريقة في بلاد ما بين النهرين (العراق)، لأسرة كردية اشتهرت بشجاعتها وكرمها. وقد حُمل منذ صغره على حب الشجاعة والفروسية، فنشأ شاباً قوي الإرادة، حاد الذهن، ماهراً في فنون القتال. سرعان ما برزت قدراته القيادية، فترقى في صفوف الجيش حتى أصبح قائداً عسكرياً لا يُضاهى.
وقد توّج الله جهوده بتوحيد مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن تحت رايته، مؤسساً بذلك الدولة الأيوبية التي استمرت قرابة قرن من الزمان. وقد قضى صلاح الدين على الدولة الفاطمية، واسترد القدس من أيدي الصليبيين في انتصار تاريخي يُخلد في ذاكرة الأمة الإسلامية.
وبعد حياة حافلة بالجهاد والكفاح، توفي السلطان صلاح الدين في دمشق عام 1193 ميلادياً عن عمر يناهز 56 عاماً، تاركاً خلفه إرثاً حافلاً بالبطولات والأمجاد.
مراحل حياة صلاح الدين الأيوبي
مرحلة الطفولة
نشأ صلاح الدين الأيوبي في أحضان أسرة كردية عريقة، حيث كانت عائلته تسكن في قرية أجدانقان بأذربيجان. وقد حُفلت طفولته بالعديد من المحطات التي شكلت شخصيته وقادته إلى ما أصبح عليه.
يُروى أن ولادته تزامنت مع خروج والده وعمه من تكريت في ظروف صعبة، مما أضفى على بدايات حياته طابعاً من التحدي والتحرك الدائم. ترعرع صلاح الدين في رعاية والده، وتلقى منه أساسيات الفروسية والشجاعة، تلك الصفات التي سترافقه طوال حياته. وفي سن مبكرة، رافق عمه أسد الدين شيركوه في حملاته العسكرية، لا سيما في مصر، حيث اكتسب خبرة قتالية مبكرة، وشارك في الدفاع عن هذه البلاد.
ورغم هذه التجارب المبكرة، لم يكن هناك ما يدل على أن الصبي صلاح الدين سيكون يوماً ما قائداً عظيماً، بل كان طفلاً كأي طفل، يعشق اللعب والمرح، ويهتم بدراسته الدينية، والتي غرست فيه قيماً أخلاقية راسخة ستكون له عوناً في مسيرته المستقبلية.
مرحلة الدراسة
نشأ صلاح الدين الأيوبي في بيئة علمية وعسكرية، فمنذ صغره، غرس فيه والده، وهو ضابط في جيش الزعيم السلجوقي زنكي، حب المعرفة والشجاعة. وقد تلقى تعليمًا شاملاً شمل الدين والفلسفة والقانون والرياضيات والفلك، مما أهّله لأن يكون قائداً متمكناً.
كما تعلم فنون القتال المختلفة، كاستخدام القوس والسهم والسيف وركوب الخيل، فكان يتدرب بجدٍ على هذه المهارات ليكون جنديًا قويًا شجاعًا. وفي سن الرابعة عشرة، بدأ يتلقى تدريبات مكثفة على أيدي عمه شيركوه، الذي كان قائداً عسكرياً بارعاً، فتعلم منه أسرار الحروب والمعارك وأساليب القيادة، وقضى معظم وقته في خدمته.
بالإضافة إلى ذلك، حرص صلاح الدين على تطوير نفسه ثقافيًا، فحفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية وآدابها، واستمع إلى محاضرات العلماء في الجامع الأموي، مثل عبدالله بن أبي عصرون، الذي كان يُعَدُّ من أبرز علماء عصره.
وبفضل هذا التعليم المتنوع والشامل، استطاع صلاح الدين أن يجمع بين العلم والمعرفة والشجاعة، مما جعله قائداً فذاً قادراً على توحيد المسلمين وتحقيق انتصارات عظيمة.
الحياة الشخصية
تُعتبر الحياة الشخصية للسلطان صلاح الدين الأيوبي، القائد العسكري والسياسي البارز، غنية بالتفاصيل الإنسانية التي تكشف عن جوانب أخرى من شخصيته خارج إطار المعارك والحروب.
فبالرغم من انشغاله بالأمور الحربية والدولية، فقد اهتم بحياته الأسرية والعلاقات الاجتماعية. تزوج صلاح الدين من عصمت الدين خاتون شمسة، وهي شخصية بارزة في تاريخ ذلك العصر، وكانت زوجة السلطان نور الدين زنكي قبل أن تتزوج منه بعد وفاة نور الدين، مما يعكس مكانته وعلاقاته المتشعبة في العالم الإسلامي.
وبالرغم من ذكر بعض المصادر لزواجات أخرى للسلطان، إلا أن اسم عصمت الدين خاتون يبقى هو الاسم الأكثر بروزاً في هذا السياق. وعلى صعيد الأسرة، فقد رزق صلاح الدين بأبناء عدة من بينهم الأفضل بن صلاح الدين والعزيز بن عثمان والظاهر غازي وإسحاق بن صلاح الدين ومسعود ويعقوب، بالإضافة إلى أبناء آخرين لم تُذكر أسماؤهم تفصيلاً في المصادر التاريخية.
أما على الصعيد العائلي المباشر، فكان والده هو نجم الدين أيوب، وكان له شقيقان بارزان هما العادل الأول وتوران شاه اللذان لعبا دوراً هاماً في تاريخ الدولة الأيوبية.
الحياة العملية وإنجازات صلاح الدين الأيوبي
بداياته
نشأ صلاح الدين الأيوبي في صلب عائلة عسكرية كردية، وقد سُرعان ما برز كقائد شاب موهوب، ليجد نفسه في الصراعات السياسية والعسكرية التي اجتاحت المنطقة في عصره. تربى صلاح الدين في ظل الزعيم العسكري السوري نور الدين، الذي كان له تأثير بالغ في تشكيل شخصيته العسكرية والسياسية.
تبلورت موهبة صلاح الدين القيادية بشكل واضح خلال مشاركته في ثلاث حملات عسكرية على مصر، التي كانت آنذاك تحت حكم السلالة الفاطمية. في هذه الحملات، أظهر شجاعة فائقة وذكاءً استراتيجيًا، مما لفت أنظار القادة العسكريين إليه.
وفي عام 1169، توفي قائد الحملة شيركوه، فتولى صلاح الدين قيادة القوات، وسرعان ما تمكن من تثبيت أقدامه في مصر، ليعين مستشارًا للخليفة الفاطمي، وهو ما مهد الطريق لتوسيع نفوذه وسيطرته على المنطقة.
لم يقتصر طموح صلاح الدين على مصر فحسب، بل تجاوز ذلك إلى بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، وصولًا إلى الدول الصليبية. وقد اتبع في غزواته استراتيجية ذكية، حيث كان يبدأ بتقديم عروض للاستسلام، أملاً في تجنب سفك الدماء، ولكن إذا فشلت هذه المحاولات، كان يشن هجمات عسكرية عنيفة لتحقيق أهدافه. وقد حقق صلاح الدين انتصارات ساحقة في العديد من المعارك، مما جعله رمزًا للمقاومة الإسلامية ضد الحروب الصليبية.
بهذه الخطوات الثابتة، وبفضل قيادته الحكيمة وشجاعته الفذة، استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يوحد الأراضي الإسلامية، ويستعيد القدس من أيدي الصليبيين، ليصبح بذلك أحد أبرز القادة العسكريين والسياسيين في التاريخ الإسلامي.
إنجازاته
يوجد الكثير من الإنجازات في حياة صلاح الدين الأيوبي، وأبرزها:
- توحيد العالم الإسلامي: حيث قام بإكمال مسيرة نور الدين في الفتوحات الإسلامية، ومن ثم قام بتوحيد العالم الإسلامي على شكل تحالُف يجمع بين الدول المستقلة، وحكام المُدن على الرغم من الاختلاف في المعتقدات الدينية الموجودة بها، واعتمد الدبلوماسية والقتال في ذلك، وهو ما ساعده في زيادة شهرته بالكرم والعدالة.
- توقيع معاهدة مع الإمبراطورية البيزنطية: في العام 1185 سيطر صلاح الدين على الموصل، وقام بتوقيع معاهدة مع الإمبراطورية البيزنطية ضد السلاجقة.
- فتح القدس: في معركة حطين والقدس في العام 1187 قام صلاح الدين الأيوبي بمعركة في حطين لفتح القدس وتحريرها من الصليبيين، وتم تحريرها في نفس العام، وسمَح للمسيحيين الشرقيين بالبقاء في المدينة، كما قام بتحويل جميع الكنائس التي بها لمساجد باستثناء كنيسة القيامة، وساعده ذلك في تأكيد مكانته القيادية وسمعته.
- الحملة الصليبية الثالثة: دعا البابا غريغوري الثالث لشن حملة صليبية ثالثة، واستعادة القدس في العام 1191، وقد وافقه على ذلك فريدريك ملك ألمانيا، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد الأول (قلب الأسد) ملك إنجلترا، وقاموا بمحاصرة المسلمين وجيش صلاح الدين الأيوبي، وانتصر الصليبيون، ولكن سُرعان ما أرهقت جيوشهم واستعاد صلاح الدين الأيوبي القدس مجددًا.
إنجازات أخرى:
- شجع انتشار المؤسسات الدينية الإسلامية في بلاده، وأحضر العديد من العلماء، والخطباء.
- قام ببناء الكليات والمساجد.
- غزا نصف العالم في فترته، وساعد ذلك في إعادة قوة الحضارية الإسلامية كما عُرفت سابقًا.
جوانب أخرى من حياة صلاح الدين الأيوبي
صفات صلاح الدين الأيوبي
كان صلاح الدين الأيوبي قائداً فذًا، ترك بصمة واضحة في تاريخ الإسلام، وامتلك شخصية كاريزمية جمعت بين القوة والشجاعة والتواضع. ففي مظهره الخارجي، كان رجلًا نحيفًا متوسط الطول، وبشرته داكنة اللون، وملامحه تحمل شيئًا من الحزن.
ولكن ما ميّزه حقًا هي صفاته الشخصية النبيلة، فقد كان متواضعًا لدرجة أنه لم يهتم بالتشريفات الملكية، بل فضّل أن يكون قريبًا من جنوده وشعبه، مستندًا في قيادته على تأثيره الشخصي وشهامته التي اكتسب بها محبتهم وولائهم. كما امتلك موهبة فذة في التخطيط الاستراتيجي، حيث كان يخطط لحملاته بعناية فائقة، ويقود جيوشه بحكمة وإصرار.
ورغم شجاعته وحزمه في القتال، إلا أنه كان يكره إراقة الدماء، ويفضل الدبلوماسية والتفاوض على الحرب، وكان لا يلجأ إليها إلا كخيار أخير. وقد تجلّت شهامته في تعامله الرقيق مع النساء والأطفال، حيث كان يراعي حقوقهم ويحميهم حتى في أشد المعارك ضراوة.
كما كان يتمتع بمرونة في التعامل مع الآخرين، وكان يستمع لآراء جنوده ويحاورهم، مما زاد من تماسكه معهم وحفزهم على بذل أقصى ما لديهم في سبيل تحقيق النصر.
هواياته واهتماماته
على الرغم من عبء المسؤوليات الملكية التي حملها على عاتقه، فإن صلاح الدين الأيوبي لم يقتصر اهتمامه على شؤون الدولة وحده، بل كان يمتلك روحًا شابة تحب الحياة وتستمتع بكل لحظاتها. فقد كان السلطان العادل، كما كان الإنسان الذي يتمتع بطيف واسع من الهوايات والاهتمامات.
فقد كان مولعًا بالبساطة والتواضع، حيث فضل الوجبات البسيطة كالفواكه الطازجة والأرز المسلوق وماء الشعير، واستمتع بقضاء أمسياته في صحبة الأصدقاء والعلماء والشعراء، حيث كانوا يتبادلون الأحاديث في الفقه والقانون، أو يستمعون لتلاوات القرآن الكريم التي كانت تثير في نفسه مشاعر عميقة من الإيمان والتأثر، لدرجة أنه كان يبكي تأثرًا عند سماع تلاوة مميزة.
كما كان شغوفًا بالشعر، خصوصًا شعر أبي تمام، وكان يدون اقتباساته المفضلة في دفتر صغير يحمله معه دائمًا، وكأنه يجمع كنوزًا معنوية. ولم يقتصر اهتمامه على الأدب فحسب، بل امتد إلى الرياضة، حيث كان ماهرًا في لعبة الشطرنج، ومحبًا لركوب الخيل وممارسة لعبة البولو.
وكانت الخيول تحتل مكانة خاصة في قلبه، فقد كان يربيها ويعتني بها، ويقدمها هدايا ثمينة لمن يحبهم. ورغم أنه كان سلطانًا، إلا أنه لم يعش حياة الترف والبذخ، بل فضل البساطة في حياته اليومية، واستمتع بقضاء أوقات فراغه في الحدائق بدمشق مع أطفاله، حيث كان يجد الراحة والسكينة بعيدًا عن هموم الحكم.
أيامه الأخيرة ووفاته
في عام 1192م، بدأت صحة القائد المسلم العظيم صلاح الدين الأيوبي تتدهور بشكل ملحوظ، حيث اشتد عليه المرض وأضعفه، ليعيش أيامه الأخيرة في معاناة شديدة. كان هذا المرض قد استقر في جسده بعد عودته من مكة المكرمة، حيث كان قد استقبَل الحجاج، وحمّى الصفراء قد ألّبت عليه سهامها.
ورغم استدعاء أفضل الأطباء والعلماء لعلاجه، إلا أن المرض كان أشدّ منهم جميعًا. في تلك الأيام الأخيرة، كان صلاح الدين فاقدًا لوعيه معظم الوقت، بينما كان أحد المشايخ يقرأ القرآن الكريم بجواره، ساعياً إلى أن يجد في آيات الله تعالى ما يريح قلبه. وعندما وصل الشيخ إلى سورة الحشر، وتلا الآية الكريمة: “هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ” [الحشر:22]، استيقظ صلاح الدين فجأة، وقال بتأثر بالغ: “إن لهذا لحقّ”، وكأنه كان ينتظر هذه الآية ليشهد بها على إيمانه العميق بربه.
وبعدها بوقت قصير، فارق الحياة، تاركًا وراءه إرثًا عظيمًا من البطولات والتضحيات. فلم يبق من ماله سوى دينار واحد وسبعة وأربعون درهمًا، فقد وزع كل ثروته على الفقراء والمساكين، ليدل بذلك على تواضعه وكرمه، ويؤكد أن الدنيا ما كانت همه الأول والأخير.
صلاح الدين الأيوبي في الإعلام والأدب
ذُكر صلاح الدين الأيوبي في الإعلام والأدب بصور مختلفة، وذلك حسب الآتي:
- في الإعلام: في فيلم (Kingdom of heaven) تمت مناقشة شخصية صلاح الدين الأيوبي من خلال الحروب الصليبية بين المسلمين والمسيحيين للسيطرة على القدس، وقد كان حياديًا فيما يتعلق بالأديان، أما صلاح الدين الأيوبي فقد ظهر في مظهر القائد الفذ الشُجاع، والذي استطاع قيادة الجيوش المسلمة والقتال بها بكل قوة، كما تم ذكر جانب الرحمة به وعدم رغبته في إراقة الدماء.
- في الأدب: في كتاب “قاهر الصليبيين: صلاح الدين الأيوبي” تم ذكر صلاح الدين الأيوبي على أنّه البطل المغوار؛ الذي أتى لإنقاذ المسجد الأقصى، وتحدّث الكتاب عن جميع جوانب حياة صلاح الدين الأيوبي، وإنجازاته بكل حيادية ودون أي انحياز.