سورة مريم: مفتاح للتفكر في المعجزات الإلهية والأسرار الكونية. تذهب السورة إلى أبعد من مجرد سرد قصة، بل تقدم دروساً عميقة في الإيمان والصبر والتسليم بقضاء الله. إنها دعوة للتفكر في قدرة الله على خلق الحياة من العدم وتغيير المستحيل إلى ممكن.
سورة مريم من السُّور المكيَّة، أيّ أنًّ جلَّ آياتها نزلت على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في مكّة المُكرّمة، ما عدا الآيات 58 و71 فهذه الآيات مدنيَّة، ويبلغ عدد آيات سورة مريم ثمانٍ وتسعين آية، وهي السّورة التاسعة عشر في ترتيب سور القرآنِ الكريم، وقد نزلت بعد سورة فاطر، وتقع في الجزء السادس عشر، سُميّت بسورة مريم نسبةً إلى مريم أمِّ السيّد المسيح نبيّ الله -عليه السَّلام-، وتعدّ السّورة الوحيد من سور القرآن الكريم التي نزلت باسم امرأة، وقد خلّدت هذه السورة ذكرى مريم العذراء التي ولدت السيّد المسيح بمعجزةٍ إلهيّة، فلم يكن له والد، وهذا ما يعتقد به المسيحيون والمسلمون، وسيطرح هذا المقال سبب نزول سورة مريم.
سبب تسمية سورة مريم
قبل الحديث عن سبب نزول سورة مريم، من الممكن معرفة سبب تسميتها بهذا الاسم، فهي السورة الوحيدة من سور القرآن الكريم التي حملت اسم امرأة، وهي مريم بنت عمران، والدة السيّد المسيح -عليه السَّلام-، فجعل الله تعالى هذه السّورة تخليدًا لذكرى هذه المرأة العظيمة، التي ولدت ابنها المسيح بمعجزة إلهيّة غير مسبوقة، فكانت عذراء وليس لها زوج، وجاء المسيح -عليه السَّلام- من غير أبّ، وهذا بحسب المعتقدات المسيحيّة والإسلاميّة، ويعدّ اسم السيّدة مريم هو الاسم الوحيد الذي ذكر في القرآن صراحةً من بين كل أسماء النساء، مما يدلُّ على عظيم شأنّها في الإسلام، وقد جاء ذكرها أيضًا في سورة آل عمران، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، أيّ أنّ مريم العذراء هي أفضل نساء العالمين، وقد ورد ذكر السيّدة مريم في سورة التّحريم، في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ}، و ورد ذكرها أيضًا في حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: “كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ، وإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سَائِرِ الطَّعَامِ”، والله أعلم.
سبب نزول سورة مريم
يعد علم أسباب النزول من أهم العلوم الشرعيّة في الإسلام، فهو يسّهل معرفة تفسير الآيات، ومعرفة مقاصد هذه الآيات، ومن أسباب نزول الآيات في سورة مريم ما يأتي:
- سبب نزول سورة مريم الآية الرابعة والستين: فقد جاء في الحديث الشريف أن “أبطأَ جبريلُ على النبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ أربعينَ يومًا ثمَّ أنزلَ، فقالَ لَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ما نَزلتَ حتَّى اشتقتُ إليكَ، فقالَ لَهُ جبريلُ: أَنا كنتُ إليكَ أشوَقَ ولَكِنِّي مَأمورٌ، فأوحى اللَّهُ إلى جبريلَ: أن قُلْ لَهُ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ”، وكان ذلك سبب نزول الآية الكريمة من سورة مريم، {ومَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ۖ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}.
- سبب نزول سورة مريم الآية السادسة والستين: جاء عن الكلبيّ أن أبيّ بن خلف مسك بيده عظامًا، وبدأ يفتها بيده قائلًا: “زعم لكم محمد أنّا نبعث بعدما نموت”، فنزل فيه قوله تعالى في سورة مريم: {وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّاْ}.
- سبب نزول سورة مريم الآية السابعة والسبعين: يُقال أنّ هذه الآية قد نزلت في واحد من المشركين وهو العاصّ بن وائل السّهمي، وقد كان للصحابي خبّاب بن الأرت عند العاصّ دين، وكان العاصّ يؤخر سداد هذا الدًّين، وقال لخباب: “لا أقضيك حتى تكفر بمحمد”، فرفض خباب ذلك وقال للعاصّ: “لا أكفر حتى تموت وتبعث”، فسخر العاصّ من كلام خبّاب بن الأرت عن البعث والنشور وقال: “إني إذا مت ثم بعثت، جئني وسيكون لي مال وولد فأعطيك، فنزلت الآية الكريمة من سورة مريم: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا}.
- سبب نزول سورة مريم الآية السادسة والتسعين: جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة أنّ الله تعالى أراد بها أن يخبر عباده الصالحين أنّه غرس في قلوبهم المحبّة والمودة، وذلك في قوله تعالى من سورة مريم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا}.
فضل سورة مريم
لم يرد عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أحاديثٌ صحيحةُ أو حسنة خاصّة في فضل سورة مريم، ولكنّها سورةٌ من سور القرآن أي إنّ لقارئها من الأجر ما لقارئ القرآن الكريم بصفة عامّة.
وقد أورد بعضٌ من أهل العلم في فضل سورة مريم بعض الأحاديث الضّعيفة، أو التي لا تصحّ نسبتها إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بسند متّصل صحيح، ومن ذلك:
- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مَن قرأَ سورة مريم أَعطِي من الأَجر عشر حسنات، بعدد مَن صَدَّق بزكريّا، ويحيى، ومريمَ، وموسى، وعيسى وهارون، وإِبراهيم، وإِسحاق، ويعقوب، وإِسماعيل، عشر حسنات، وبعدد مَن دعا للهِ ولدًا، وبعدد مَن لم يَدْعُ له ولدًا، ويعطى بعددهم حسناتِ ودرجات، كلّ درجة منها كما بين السّماءِ والأَرض أَلف أَلفِ مرّة ويُزوّج بعددها في الفردوس، وحُشِر يوم القيامة مع المتَّقين في أَوّل زُمرة السّابقين”.
- عن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- أَنّه قال: “من قرأَ هذه السّورة لا يموت ولا يخرج من الدّنيا حتى لا يصيب الفتنة في نفسه، وماله، وولده، وكان في الآخرة من أَصحاب عيسى بن مريم، وأُعطي من الأَجر كمُلْك سليمان بن داود”.
- عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال له: “يا عليّ مَن قرأَ ها يا ع ص أَعطاه الله من الثواب مثلَ ثواب أَيّوب ومريم، وله بكلِّ آية قرأَها ثوابُ شهيد من شهداءِ بدر”.
فضل سورة مريم في التأثير إيجابًا على حياة المسلم
جاء في مضامين سورة مريم بعض ما من شأنه تحسين حياة المسلم، ومن ذلك:
- تنبيه عباد الله بعِظَم شأن القرآن الكريم، وحثّهم على اتّباع منهجه في تبشيره ونذارته، وأن الله جعله عربيًّا يسيرًا وفي هذا حثّ على تعلّم العربيّة لفهم القرآن كما ينبغي.
- إنذار أهل الزّيغ، وذكر ما حلّ بالمكذبين من الأمم من استئصال ودمار، ولعلّ في هذا تنبيه للمسلمين ليثبتوا على الحقّ ولا يتجاوزوه إلى الضّلال.
- إظهار أنّ الله تعالى قريب مجيب إذا ناداه عبده وناجاه بصدق، فذاك زكريا -عليه السّلام- حينما دعا ربّه استجاب له فرزقه ولدًا على ما كان فيه من كبر.
- دعوة المسلمين إلى الثّبات على طريق الجنّة، ووصف ما فيها من نعيم وما لأهلها من حظّ وافر غير مُنقطع.
- وعد الرّسول والذين آمنوا بأنّ النّصر على العِدى حاصلٌ لا بدّ، وفي هذا تثبيت للمسلم على مشاقّ الطّريق.