فضل صيام يوم عاشوراء: بحر من الحسنات وتكفير للخطايا

في خضم أيام السنة التي تمر بنا، يخص الله سبحانه وتعالى أوقاتاً معينة بمزيد من الفضل والبركة، لتكون محطات إيمانية يتزود فيها المسلم بالتقوى، ويغتنمها لتكفير خطاياه ورفع درجاته. ومن بين هذه المواسم العظيمة، يبرز يوم عاشوراء، اليوم العاشر من شهر محرم، كفرصة سنوية ثمينة لا ينبغي لعاقل أن يفوتها. إن فضل صيام يوم عاشوراء ليس مجرد فضيلة عادية، بل هو منحة ربانية عظيمة، وعد الله عليها بأجر جزيل، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم أشد الحث.

هذا المقال هو رحلة إيمانية شاملة لاستكشاف أعماق هذا اليوم المبارك، بدءاً من تاريخه وقصته، مروراً بفضله العظيم الذي ورد في السنة النبوية، وصولاً إلى الأحكام الفقهية المتعلقة بصيامه وكيفية اغتنامه على الوجه الأكمل.

قبل أن نغوص في فضل الصيام، من الضروري أن نفهم قصة هذا اليوم وعمق جذوره التاريخية والدينية. كلمة “عاشوراء” مشتقة من الرقم عشرة، فهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وهو أول شهر في التقويم الهجري وأحد الأشهر الحُرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.

ترتبط قصة عاشوراء بشكل أساسي بحدث تاريخي عظيم، وهو نجاة نبي الله موسى عليه السلام وقومه بني إسرائيل من بطش فرعون وجنوده. عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، وجد اليهود يصومون هذا اليوم.

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ”.

هذا الحديث يوضح لنا الأصل العظيم لهذا الصيام؛ إنه صيام شكر لله تعالى على نصره للحق على الباطل، وإنجائه للمؤمنين وإهلاكه للظالمين. فالمسلمون أولى بالأنبياء جميعاً، وهم يشاركون موسى عليه السلام فرحته وشكره لله بصيام هذا اليوم.

ولم تكن مكانة عاشوراء مقتصرة على ما بعد الإسلام، بل كان يوماً معظماً حتى في الجاهلية، حيث كانت قريش تصومه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه قبل البعثة.

يكمن جوهر وأعظم فضائل صيام هذا اليوم في الأجر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أجر يطمع فيه كل مسلم ومسلمة. إنه فرصة لمحو ما قد يكون تراكم على سجل العبد من صغائر الذنوب والزلات على مدار عام كامل.

سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء فقال: “أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ”. (رواه مسلم)

تأمل في عظمة هذه المنحة الربانية! عمل يسير لا يتجاوز الامتناع عن الطعام والشراب لساعات معدودة، يقابله أجر عظيم وهو تكفير ذنوب سنة كاملة. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على رحمة الله الواسعة بعباده، وحرصه على منحهم الفرص المتكررة لتطهير أنفسهم والبدء من جديد.

ملاحظة هامة حول تكفير الذنوب: أشار العلماء إلى أن الذنوب التي يكفرها صيام عاشوراء وغيره من الأعمال الصالحة هي الذنوب الصغيرة. أما الكبائر (مثل الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس)، فإنها تحتاج إلى توبة نصوح بشروطها المعروفة من إقلاع عن الذنب، وندم على ما فات، وعزم على عدم العودة إليه. ومع ذلك، يظل صيام هذا اليوم فرصة عظيمة لتخفيف العبء عن كاهل المسلم وتطهير صحيفته.

وقد بلغ من اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بصيام هذا اليوم ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما: “مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاَّ هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ، يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ”. (رواه البخاري). “يتحرى” أي يقصد ويتعمد صيامه لأجل الحصول على فضله.

مع أن الفضل مرتبط بصيام اليوم العاشر، إلا أن السنة النبوية أرشدتنا إلى ما هو أكمل وأفضل، وهو أن يُصام اليوم التاسع من محرم (المسمى تاسوعاء) مع اليوم العاشر. والحكمة من ذلك تتجلى في أمرين:

  1. مخالفة اليهود: حرص الإسلام على تمييز عبادة المسلمين وشعائرهم عن غيرهم. ولما كان اليهود يفردون اليوم العاشر بالصيام، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخالفهم بإضافة يوم قبله.
  2. تحقيق مراد النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ”. ومعنى ذلك أنه عزم على صيام التاسع مع العاشر في العام المقبل، لكنه توفي صلى الله عليه وسلم قبل أن يدركه. فصيامنا لليوم التاسع هو تحقيق لرغبته الشريفة واتباع لسنته.

مراتب صيام عاشوراء

بناءً على ما سبق، ذكر العلماء أن صيام عاشوراء له ثلاث مراتب:

  1. المرتبة الأكمل: صيام اليوم التاسع والعاشر من محرم. وهذا هو أفضل ما يمكن للمسلم أن يفعله، وفيه الجمع بين فضيلة عاشوراء وتحقيق سنة مخالفة أهل الكتاب.
  2. المرتبة الثانية: صيام اليوم العاشر والحادي عشر. وهذا أيضاً يحقق المخالفة.
  3. المرتبة الثالثة: إفراد اليوم العاشر (عاشوراء) وحده بالصيام. وهذا جائز ويحصل به أصل الفضيلة (تكفير السنة)، وإن كان بعض العلماء يرى أنه مكروه كراهة تنزيهية لموافقته لصيام اليهود، لكن الأجر يظل ثابتاً بإذن الله.

إن يوم عاشوراء ليس مجرد مناسبة للصيام ونيل الأجر، بل هو مدرسة إيمانية متكاملة نستلهم منها العديد من الدروس والعبر:

  • نصرة الحق: قصة نجاة موسى هي تذكير دائم بأن الحق منتصر لا محالة، وأن الباطل مهما علا وتجبر فإن نهايته إلى زوال.
  • أهمية الشكر: كان صيام موسى عليه السلام شكراً لله. وفي صيامه، نتعلم أن نترجم نعم الله علينا إلى عبادة وطاعة.
  • وحدة رسالة الأنبياء: قول النبي “أنا أحق بموسى منكم” يؤكد على أن رسالة الأنبياء واحدة، وهي التوحيد، وأن المسلمين هم ورثة هذا المنهج القويم.
  • الأمل وبداية جديدة: يأتي عاشوراء في بداية العام الهجري، وكأن الله يمنحنا فرصة لتصفير عداد الخطايا الصغيرة، والبدء بعزيمة جديدة وصفحة بيضاء.

إن فضل صيام يوم عاشوراء هو غنيمة باردة وهبة عظيمة من الله تعالى. إنه يوم واحد يمكن أن يغير ميزان حسناتك، ويطهرك من عام كامل من الزلات. فلا تتردد في عقد النية من الآن على صيامه، وحث أهلك وأصدقائك على ذلك. اجعل صيامه خالصاً لوجه الله، شكراً له على نعمه، وطمعاً في مغفرته، واتباعاً لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ليكن يوم عاشوراء محطة للتأمل في قصص القرآن، وتجديد العهد مع الله، وشحذ الهمة لعام قادم مليء بالطاعة والبركات.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية