على مر الزمان، كانت هناك أرضٌ ليست ككل الأراضي، وشعبٌ ليس ككل الشعوب. إنها فلسطين، الأرض التي باركها الله وكانت مهدًا للديانات وملتقى للحضارات. قصتها ليست مجرد سطور في كتب التاريخ، بل هي حكاية حية منقوشة بالصمود والأمل، تمتد جذورها في أعماق الماضي وترنو بفروعها نحو سماء المستقبل.
لفهم ما يحدث اليوم على أرضها المباركة، يجب أن نبدأ رحلة عبر الزمن، لنرى كيف تشكلت هويتها، وكيف واجه شعبها التحديات الجسام، من فجر التاريخ إلى النكبة، وصولًا إلى واقعنا المعاصر.
فجر التاريخ: الكنعانيون بناة الحضارة الأولى
قبل آلاف السنين، وقبل أن تُعرف الإمبراطوريات الكبرى، كانت هذه الأرض تنبض بالحياة. استقر فيها الكنعانيون، وهم شعب عربي سامي، فبنوا المدن وشيدوا الحضارة. مدن مثل أريحا، التي تُعرف بأنها من أقدم المدن المأهولة في العالم، والقدس، ويافا، وغزة، كلها شاهدة على هذا الأصل العريق. لقد كانت تُعرف بـ “أرض كنعان”، وهذا هو اسمها الأول وهويتها الأصيلة التي لا يمكن للتاريخ أن يمحوها.
أرض الأنبياء وملتقى الإمبراطوريات
موقع فلسطين الاستراتيجي جعلها قلب العالم القديم، ولكنه جعلها أيضًا محط أنظار الطامعين. تعاقبت عليها إمبراطوريات وحضارات لا حصر لها: من الفراعنة المصريين، والآشوريين، والبابليين، إلى الفرس واليونان والرومان. شهدت هذه الأرض ميلاد السيد المسيح عيسى عليه السلام في بيت لحم، وسار على ترابها الأنبياء والرسل، مما منحها قدسية فريدة في قلوب أتباع الديانات السماوية الثلاث. ورغم كل الغزاة، بقي أهلها الأصليون متشبثين بأرضهم، محافظين على طابعها وهويتها.
الفتح الإسلامي: عهد جديد من النور
مع بزوغ فجر الإسلام، دخلت فلسطين عهدًا جديدًا. في عام 638 ميلاديًا، دخل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس سلماً، وأعطى أهلها “العهدة العمرية”، وهي وثيقة فريدة في تاريخ التسامح الديني، ضمنت لغير المسلمين حرية عبادتهم وأمن كنائسهم وممتلكاتهم. منذ ذلك الحين، أصبحت فلسطين جزءًا لا يتجزأ من العالم العربي والإسلامي، وأصبحت القدس، بمسجدها الأقصى، ثالث الحرمين الشريفين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
قرون من الحكم العثماني وبداية المؤامرة
لأربعة قرون متتالية (1517-1917)، كانت فلسطين تحت راية الإمبراطورية العثمانية. لكن رياح التغيير بدأت تهب من أوروبا. فمع صعود الحركة الصهيونية، التي هدفت إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بدأت هجرات منظمة إلى الأرض المباركة، وبدأوا في شراء الأراضي بدعم وحماية من قوى استعمارية، في تجاهل تام لوجود وحقوق الشعب الفلسطيني الذي يعيش عليها منذ آلاف السنين.
الانتداب البريطاني ووعد بلفور المشؤوم
بعد الحرب العالمية الأولى، سقطت فلسطين تحت الانتداب البريطاني. لم تكن بريطانيا حاكمًا نزيهًا، بل جاءت لتنفيذ “وعد بلفور” عام 1917، وهو الوعد الذي قطعه من لا يملك لمن لا يستحق. تعهدت بريطانيا بمساعدة الحركة الصهيونية على تأسيس وطنها القومي، وفتحت أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها، وسلحت العصابات الصهيونية، وقمعت بوحشية كل مقاومة فلسطينية، ممهدة الطريق لأكبر مأساة في التاريخ الحديث.
عام النكبة: جرح الأمة الذي لم يندمل
في عام 1948، وبعد انتهاء الانتداب، أُعلن عن قيام دولة إسرائيل. شنت العصابات الصهيونية حربًا شاملة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل، فدمرت أكثر من 500 قرية ومدينة، وارتكبت مجازر مروعة، وهجّرت بالقوة ما يزيد عن 750,000 فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم. هذه هي “النكبة”، الكارثة التي حولت أصحاب الأرض إلى لاجئين في مخيمات الشتات، وسرقت منهم وطنهم وتاريخهم. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي عام 1967، احتُلت بقية فلسطين، بما في ذلك القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
من النكبة إلى اليوم: صمود أسطوري في وجه العدوان
منذ ذلك اليوم، والفلسطينيون لم يتوقفوا عن النضال من أجل حقهم في الوجود والحرية. مروا بالانتفاضات، وقدموا تضحيات جسام، وواجهوا حصارًا واحتلالًا وقمعًا مستمرًا. وفي السنوات الأخيرة، وخاصة منذ أواخر عام 2023، شهد العالم، وبشكل خاص في قطاع غزة، عدوانًا وحشيًا وحرب إبادة غير مسبوقة. رأينا بأعيننا حصارًا خانقًا يمنع الماء والدواء والغذاء، وقصفًا همجيًا لم يترك حجرًا على حجر، مستهدفًا الأطفال والنساء والمستشفيات والمساجد والكنائس.
لكن وسط هذا الدمار الهائل والألم الذي لا يوصف، رأينا أيضًا صمودًا أسطوريًا من أهلنا في غزة وفي كل فلسطين. رأينا شعبًا يتمسك بأرضه، ويرفض التهجير، ويواجه الموت بإيمان وثبات أذهل العالم، ويعلم البشرية كل يوم دروسًا في الكرامة والصبر والعزة.
ختاما
إن تاريخ فلسطين هو شهادة حية على أن الحق لا يموت، وأن إرادة الشعوب الحرة لا يمكن أن تُقهر. هي قصة شعب لم يختر الحرب، ولكن فُرضت عليه، فواجهها بصبر أيوب وعزم الأنبياء.
في هذه الأوقات العصيبة، تتجه قلوبنا وأرواحنا إلى إخوتنا هناك. ندعو لهم في كل صلاة وفي كل وقت.
اللهم يا منزل الكتاب، ويا مجري السحاب، ويا هازم الأحزاب، كن لأهلنا في فلسطين عونًا ونصيرًا. اللهم اربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وسدد رميهم. اللهم اشف جرحاهم، وتقبل شهداءهم، وآمن روعاتهم، واحفظ أطفالهم ونساءهم وشيوخهم من كل سوء. اللهم عليك بالظالمين المعتدين، فإنهم لا يعجزونك. اللهم إنا نستودعك فلسطين وأهلها، أقصاها وقدسها، فاحفظها بحفظك يا من لا تضيع ودائعه. اللهم ارزقهم نصرًا قريبًا وفرجًا عاجلاً، إنك على كل شيء قدير.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.