لماذا نبقى ثابتين على سطح الأرض ولا نطير في الفضاء؟ لماذا تدور الكواكب في مدارات دقيقة حول الشمس؟ ولماذا يسقط التفاح دائمًا إلى الأسفل؟ هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة اليوم، كانت تشكل ألغازًا عميقة حيرت أعظم العقول لآلاف السنين. حتى جاء رجل واحد، في لحظة إلهام تاريخية، ليقدم للعالم قانونًا واحدًا أنيقًا يفسر كل هذه الظواهر. هذا الرجل هو السير إسحاق نيوتن، وقانونه هو قانون الجاذبية الكونية.
إنها ليست مجرد معادلة رياضية معقدة محصورة في كتب الفيزياء، بل هي القصة الأساسية للكون الذي نعيش فيه. إنها القوة غير المرئية التي تشكل المجرات، وتتحكم في المد والجزر، وتبقي أقدامنا راسخة على الأرض.
هذا المقال هو رحلة لاستكشاف هذه الفكرة الثورية، من قصة التفاحة الشهيرة إلى فهم الصيغة الرياضية، وإدراك كيف غير هذا القانون نظرتنا للكون إلى الأبد.
ما وراء التفاحة: القفزة الفكرية التي وحدت السماء والأرض
تقول الأسطورة الشهيرة أن نيوتن كان جالسًا تحت شجرة تفاح عندما سقطت تفاحة على رأسه، مما ألهمه للتفكير في قوة الجاذبية. قد تكون هذه القصة مجرد تبسيط رومانسي، لكن الفكرة الأساسية صحيحة. لم تكن عبقرية نيوتن في إدراكه أن التفاح يسقط، فالجميع كان يعلم ذلك. عبقريته الحقيقية كانت في طرح السؤال التالي: هل القوة التي تسحب التفاحة إلى الأسفل هي نفس القوة التي تبقي القمر في مداره حول الأرض؟
كانت هذه قفزة فكرية هائلة. قبل نيوتن، كان يُعتقد أن هناك مجموعتين من القوانين الفيزيائية: واحدة تحكم الأشياء على الأرض (الفيزياء الأرضية)، وأخرى مختلفة تمامًا تحكم حركة الأجرام السماوية (الفيزياء السماوية). نيوتن، بجرأة، قال إنها قوة واحدة. القوة التي تجعل التفاحة تسقط هي نفسها التي “تسحب” القمر باستمرار نحو الأرض، وتمنعه من الاندفاع في خط مستقيم إلى الفضاء. لقد وحد السماء والأرض بقانون واحد “كوني” (Universal)، وهذا هو جوهر ثورته.
شرح مبسط لقانون نيوتن للجاذبية
صاغ نيوتن فكرته في قانون رياضي دقيق وأنيق، ينص على أن: “كل جسيم في الكون يجذب كل جسيم آخر بقوة تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيًا مع مربع المسافة بين مركزيهما”.
قد تبدو هذه العبارة معقدة، لكن يمكننا تفكيكها بسهولة من خلال فهم معادلتها الشهيرة:
F = G × (m₁ × m₂) / r²
دعنا نشرح كل جزء من هذه المعادلة:
F (القوة – Force)
هذا هو مقدار قوة الجاذبية بين الجسمين. كلما زادت قيمة F، زادت قوة الجذب بينهما.
m₁ و m₂ (الكتلة – Mass)
هذه هي كتلة الجسمين. الكتلة هي ببساطة كمية “المادة” الموجودة في الجسم. القانون يقول إن القوة تتناسب طرديًا مع حاصل ضرب الكتلتين. هذا يعني أنه كلما كانت الأجسام أثقل (أكثر كتلة)، كانت قوة الجذب بينها أقوى. لهذا السبب، فإن جاذبية الأرض (ذات الكتلة الهائلة) قوية بما يكفي لسحبك نحوها، بينما لا تشعر بجاذبية الطاولة التي تجلس أمامها (ذات الكتلة الضئيلة).
r (المسافة – Distance)
هذه هي المسافة بين مركزي الجسمين. وهنا يأتي الجزء الأكثر أهمية في القانون.
قانون التربيع العكسي (r²)
لاحظ أن القوة لا تتناسب عكسيًا مع المسافة فقط، بل مع مربع المسافة. هذا هو “قانون التربيع العكسي”، وهو يعني أن تأثير الجاذبية يضعف بسرعة كبيرة كلما ابتعدنا عن الجسم.
- إذا تضاعفت المسافة بين جسمين (×2)، فإن قوة الجاذبية بينهما لا تقل إلى النصف، بل تصبح أربع مرات أضعف (2² = 4).
- إذا أصبحت المسافة ثلاثة أضعاف (×3)، تصبح قوة الجاذبية تسع مرات أضعف (3² = 9).
هذا القانون يفسر لماذا لا تسقط الكواكب في الشمس. على الرغم من كتلة الشمس الهائلة، إلا أن المسافات الشاسعة في الفضاء تضعف قوة جاذبيتها بشكل كبير، مما يسمح للكواكب بالبقاء في مدارات مستقرة بدلاً من الانجذاب نحوها مباشرة.
G (ثابت الجاذبية الكوني)
قد تتساءل: إذا كان كل شيء يجذب كل شيء آخر، فلماذا لا أرى قلمي ينجذب نحو كتابي؟ هنا يأتي دور G. إنه “ثابت الجاذبية”، وهو رقم صغير جدًا (حوالي 6.674 × 10⁻¹¹). هذا الثابت يضمن أن تكون قوة الجاذبية ملحوظة فقط عندما تكون الكتل المعنية هائلة جدًا، مثل الكواكب والنجوم. إنه “المعامل” الذي يجعل المعادلة متوازنة وتعكس الواقع.
تأثير قانون نيوتن للجاذبية
لم يكن قانون نيوتن مجرد إنجاز نظري، بل كان أداة عملية غيرت مسار العلم:
- تفسير حركة الكواكب: استطاع قانون نيوتن أن يفسر رياضيًا قوانين كبلر التجريبية لحركة الكواكب، وأظهر لماذا تتحرك الكواكب في مدارات إهليلجية وليست دائرية تمامًا.
- فهم المد والجزر: أوضح القانون كيف أن جاذبية القمر (وبدرجة أقل الشمس) تسحب مياه المحيطات، مسببة ظاهرتي المد والجزر بشكل دقيق ومنتظم.
- اكتشاف كوكب نبتون: في القرن التاسع عشر، لاحظ علماء الفلك أن كوكب أورانوس ينحرف قليلاً عن المدار الذي تنبأت به قوانين نيوتن. بدلاً من التشكيك في القانون، افترض عالمان (جون كوش آدامز وأوربان لوفيرييه) بشكل مستقل وجود كوكب آخر غير مكتشف، وأن جاذبيته هي التي “تسحب” أورانوس. لقد استخدما معادلات نيوتن لحساب موقع هذا الكوكب المجهول. وعندما وجه الفلكي يوهان غاله تلسكوبه إلى الموقع المحسوب في عام 1846، وجد كوكب نبتون بالضبط حيث تنبأ القانون بوجوده. كان هذا انتصارًا مذهلاً ودليلاً قاطعًا على قوة قانون نيوتن.
حدود نيوتن وثورة أينشتاين
على الرغم من نجاحه الباهر، لم يكن قانون نيوتن هو الكلمة النهائية. كانت هناك بعض الظواهر الدقيقة التي لم يستطع تفسيرها بشكل كامل، مثل الانحراف الطفيف في مدار كوكب عطارد. كما أن القانون يصف الجاذبية كقوة غامضة تعمل بشكل فوري عبر الفضاء، دون أن يشرح كيف تعمل.
هنا جاء دور ألبرت أينشتاين ونظريته النسبية العامة في أوائل القرن العشرين. قدم أينشتاين رؤية مختلفة تمامًا:
- الجاذبية ليست “قوة” بالمعنى التقليدي.
- الكتلة لا “تسحب” الأجسام الأخرى، بل تقوم بتقويس أو تشويه نسيج الزمكان (الزمان والمكان) المحيط بها.
- الأجسام الأخرى، مثل الكواكب، لا تنجذب، بل تتبع هذه الانحناءات في الزمكان، تمامًا كما تتدحرج كرة البولينج على قطعة قماش مشدودة فتجعل الكرات الصغيرة تدور حولها.
نظرية أينشتاين لا تلغي قانون نيوتن، بل توسعه وتصقله. بالنسبة لمعظم الحسابات اليومية (مثل إرسال الأقمار الصناعية إلى المدار)، لا يزال قانون نيوتن دقيقًا بشكل لا يصدق وأسهل بكثير في الاستخدام. لكن في الحالات القصوى، مثل بالقرب من الثقوب السوداء أو عند الحاجة لدقة فائقة، تكون نظرية أينشتاين هي الأدق.
ختاما
لقد حول قانون نيوتن للجاذبية الكونية نظرتنا للكون من مكان فوضوي تحكمه نزوات الآلهة إلى نظام منظم وأنيق يمكن فهمه والتنبؤ به من خلال معادلة واحدة. لقد أثبت أن القوانين التي تحكم سقوط تفاحة هي نفسها التي تحكم رقص المجرات. وعلى الرغم من أن أينشتاين قدم لنا فهمًا أعمق، إلا أن إرث نيوتن لا يزال حيًا في كل مرة نطلق فيها صاروخًا، أو نتنبأ بكسوف، أو ببساطة نشعر بثقل أقدامنا على الأرض. إنها شهادة خالدة على قوة العقل البشري في كشف أسرار الكون الأكثر عمقًا.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.