الفكر الإداري، ذلك العمق الفكري الذي يتناول بدقة فنون إدارة الأفراد وتنظيم العمل، يمثل حجر الزاوية في بناء المؤسسات الناجحة.
فهو ليس مجرد مجموعة من القواعد، بل هو منهج شامل يعتمد على دراسة متعمقة للعلاقات الإنسانية في بيئة العمل، ويسعى جاهدًا إلى تطبيق أحدث الأساليب العلمية في إدارة الموارد وتنظيم العمليات.
ولقد نشأ هذا الفكر وتطور عبر الزمن، متأثرًا بالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها العالم، ومساهمًا في بلورة نظريات إدارية متعددة، كل منها تسعى لتقديم رؤية شاملة للإدارة وتطوير أدواتها.
إن الاهتمام بدراسة الفكر الإداري لا يقتصر على المتخصصين في مجال الإدارة فحسب، بل يشمل أيضًا كل من يتطلع إلى فهم كيفية عمل المؤسسات وكيفية تحقيق النجاح فيها.
فمن خلال دراسة الفكر الإداري، يمكن للفرد أن يكتسب المعرفة والمهارات اللازمة لتطوير نفسه كقائد فعال، وأن يساهم في بناء مجتمعات أكثر ازدهارًا.
كما أن دراسة الفكر الإداري تساعد على فهم التحديات التي تواجه المؤسسات وكيفية التغلب عليها، مما يساهم في تحقيق الاستدامة والنمو المستمر.
تطور الفكر الإداريّ
يمثل تطور الفكر الإداري، (بالإنجليزيّة: Development of Administrative Thought)، رحلة معرفية مستمرة مرتبطة بشكل وثيق بعلم الإدارة.
هذا التطور لم يقتصر على مجرد تراكم للمعارف والنظريات، بل تجاوز ذلك ليشمل تفاعلًا ديناميكيًا بين الأفكار والمدارس المتنوعة.
بدأت هذه الرحلة مع ظهور النظريات الكلاسيكية التي ركزت بشكل أساسي على الكفاءة والإنتاجية، ثم تلاها اهتمام متزايد بالعلاقات الإنسانية ودورها في تحفيز العاملين وزيادة إنتاجيتهم.
لم يتوقف التطور عند هذا الحد، بل شمل أيضًا تبني النهج السلوكي الذي اعتمد على دراسة سلوك الأفراد والجماعات في المنظمات.
وإلى جانب هذه التيارات الفكرية، ساهمت التطورات المتلاحقة في مجال الإدارة العلمية، والوظائف الإدارية، والعمليات الإدارية في تشكيل ملامح الفكر الإداري الحديث.
ولا يمكن تجاهل الدور المحوري الذي لعبته المدارس الفكرية المتعددة في صياغة هذا الفكر، حيث قدمت كل مدرسة رؤى جديدة وأفكارًا مبتكرة ساهمت في إثراء الحقل الإداري وتقديم نماذج متنوعة للإدارة، مما أثرى فهمنا للعمليات الإدارية وأسسها.
مدارس الفكر الإداريّ
تمثل مدارس الفكر الإداري منظومة متكاملة من النظريات والمفاهيم التي تسعى إلى فهم وتفسير سلوك الأفراد والجماعات داخل المنظمات.
بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر، ومع تزايد الاهتمام بدراسة الإدارة كعلم قائم بذاته، برزت هذه المدارس لتقدم رؤى متباينة حول كيفية إدارة المنظمات وتحقيق أهدافها.
ورغم تعدد هذه المدارس وتنوع آرائها، إلا أنها تتفق جميعًا على أهمية دور الإدارة في تحقيق الكفاءة والفعالية المنظمة.
وقد تباينت هذه المدارس في تحديد العوامل المؤثرة في سلوك الأفراد داخل المنظمات، فبعضها ركز على العوامل المادية والحوافز المالية، بينما اهتم البعض الآخر بالعوامل النفسية والاجتماعية، وهناك من اعتبر أن العوامل البيئية تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل سلوك الأفراد.
ومن الجدير بالذكر أن هذه المدارس ليست ثابتة، بل هي في تطور مستمر، حيث تتفاعل مع التغيرات التي تحدث في البيئة الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، مما يؤدي إلى ظهور مدارس جديدة أو تعديل المدارس القائمة.
والآتي معلومات عن أهمّ المَدارس الرئيسيّة المُرتبطة بالفكر الإداريّ:
المدرسة الكلاسيكيّة
تُعد المدرسة الكلاسيكية من أقدم المدارس الإدارية التي سعت إلى فهم وتطوير عملية الإدارة. تتميز هذه المدرسة بتركيزها على تحليل العمل إلى مهام بسيطة، وتصميم هياكل تنظيمية واضحة المعالم، وتحديد المسؤوليات والسلطات بوضوح.
كما أولت هذه المدرسة اهتمامًا كبيرًا بدراسة العلاقات بين العاملين والإدارة، وسعت إلى تطوير أساليب لتحسين أداء الأفراد والمجموعات. وتقسم إلى ثلاثة مجالات دراسيّة هي:
- الإدارة العلميّة: هي الإدارة التي ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر للميلاد، واعتَمدت على دِراسة أساليب العمل من خلال استخدام مَنهجيّة مُعيّنة لتحقيق الكفاءة، ولكن نتج عنها تطبيق قراراتٍ إداريّة تعسفيّة غالباً، ممّا أدّى إلى تنفيذ العُمّال لأعمالهم ببطء، كما أدّت الإدارة العلميّة إلى ظهور نزاعات بين الإدارة والعُمال، ويعدُّ المفكر الإداريّ فريدريك تايلور من أهم المؤيدين لهذه الإدارة.
- الإدارة الإداريّة: هي الإدارة التي تهتمّ بالمبادئ الإداريّة بصِفتها تَختلف عن الإدارة العلميّة، وتُوفّر نظريّة أكثر شموليّة لدراسة الإدارة، كما اعتمدت على أفكار المفكر الإداريّ هنري فايول الذي عرّفَ الإدارة بأنّها عمليّةٌ تعتمد على تنفيذ مجموعةٍ من الوظائف، وهي: السيطرة، والتنظيم، والقيادة، والتنسيق، والتخطيط.
- الإدارة البيروقراطيّة: هي الإدارة التي تهتمّ بالتَنظيم المثاليّ، ويُعدُّ المفكر ماكس ويبر من أهمّ المُساهمين فيها؛ إذ أشار إلى أنّ المنشآت كانت تُدار بوسائل غير فَعّالة بالاعتماد على قراراتٍ مُرتبطةٍ بالعَلاقات الشخصيّة، فاقترح ويبر أن يتمّ تطبيق نوع من أنواع التنظيم المَعروف بمُسمّى البيروقراطيّة؛ وهو الاهتمام بتقسيم العمل من خلال وجود تسلسل هرميّ يَعتمد على اختيار العُمال والموظفين، ومن ثمّ ترقيتهم بناءً على كفاءتهم بالعمل.
المدرسة السلوكيّة
المدرسة السلوكية، التي نشأت كرد فعل طبيعي على قصور المدرسة الكلاسيكية في التعامل مع الديناميكيات المعقدة لسلوك الأفراد في بيئة العمل، قدمت منظورًا جديدًا وأكثر شمولية للإدارة.
ففي حين أن المدرسة الكلاسيكية كانت منشغلة بشكل كبير بالكفاءة والإنتاجية، إلا أن المدرسة السلوكية أدركت أن التركيز الحصري على هذه العناصر قد يؤدي إلى إغفال جانب أساسي في عملية الإدارة، ألا وهو الإنسان.
لذلك، توجهت المدرسة السلوكية نحو دراسة سلوك الأفراد في المنظمات وفهم العوامل التي تؤثر على هذا السلوك، سواء كانت عوامل داخلية تتعلق بالدوافع والاحتياجات النفسية، أو عوامل خارجية تتعلق بالبيئة المحيطة والظروف العمل.
من خلال هذا التحول في الاهتمام، سعت المدرسة السلوكية إلى بناء نظريات وإدارة فعالة تعتمد على فهم عميق لطبيعة الإنسان وسلوكه، مما يساهم في تحسين الأداء وتحقيق التوازن بين أهداف المنظمة واحتياجات الأفراد العاملين فيها.
في جوهرها، يمكن القول إن المدرسة السلوكية قد أضافت بعدًا إنسانيًا إلى علم الإدارة، حيث أكدت على أهمية معاملة الأفراد كأفراد وليس مجرد عوامل إنتاج.
وقد أدت هذه الرؤية إلى تطوير مجموعة واسعة من النظريات والمفاهيم التي لا تزال تستخدم حتى اليوم في مجال الإدارة، مثل نظريات التحفيز، والقيادة، والتواصل الفعال، وبناء فرق العمل.
وبالتالي، فإن المدرسة السلوكية تعتبر واحدة من أهم المدارس الفكرية التي ساهمت في تطور علم الإدارة الحديث.
المدرسة الكميّة
المدرسة الكمية، تلك التي ارتكزت على أسس علمية دقيقة، قد برزت كمنارة في سماء الإدارة، حيث استلهمت من دقة الأرقام وقوة التحليل الكمي سبيلاً لاتخاذ قرارات إدارية سليمة.
يعود تاريخ نشأتها إلى الحقبة الصعبة لحرب العالم الثاني، حينما تطلب الأمر إيجاد حلول مبتكرة لمواجهة التحديات العسكرية المعقدة.
في تلك الفترة العصيبة، ولدت الحاجة الماسة إلى أدوات تحليلية قادرة على معالجة الكم الهائل من البيانات المتاحة، وبالتالي اتخاذ قرارات استراتيجية سريعة وفعالة.
بعد انتهاء الحرب، انتقلت هذه الأفكار الثورية من ميادين القتال إلى عالم الأعمال، حيث وجدت تربة خصبة للتطبيق والنمو.
في ستينيات القرن العشرين، شهد عالم الإدارة تحولاً جذرياً مع ظهور ما عُرف بـ “بحوث العمليات”، التي اعتمدت بشكل أساسي على النماذج الكمية المعقدة في تحليل المشكلات الإدارية.
هذه النماذج، التي تتكون من مجموعة من العلاقات والرموز الرياضية، تمكن المديرين من تمثيل الواقع الإداري بشكل أكثر دقة، وبالتالي التنبؤ بالنتائج المحتملة لاتخاذ قرارات معينة.
لقد مثلت المدرسة الكمية نقلة نوعية في مجال الإدارة، حيث حوّلت عملية اتخاذ القرار من مجرد حدس وتجربة إلى عملية علمية تعتمد على أسس رياضية منطقية.
وقد ساهمت هذه المدرسة بشكل كبير في تطوير العديد من الأدوات والتقنيات الإدارية الحديثة، مثل البرمجة الخطية ونظرية الألعاب وتحليل القرار.
مدرسة النُظم
تُعد مدرسة النظم، أو ما يُعرف باللغة الإنجليزية بـ “Systems School”، إحدى المدارس الفكرية التي أسست رؤيتها على تطبيق مبادئ الإدارة العامة للنظم على مختلف المجالات.
ترى هذه المدرسة أن الفهم الشامل لأي ظاهرة أو كيان يتطلب النظر إليه بوصفه نظامًا متكاملاً، حيث يُعتبر النظام في قلب هذه النظرية هو الوحدة الأساسية للتحليل والدراسة.
ويتكون النظام، كما تصوره هذه المدرسة، من مجموعة مترابطة من العناصر والأجزاء التي تعمل معًا بصورة متناسقة لتحقيق أهداف مشتركة.
وبذلك، فإن مدرسة النظم تقدم لنا إطارًا نظريًا شاملاً يساعدنا على فهم كيفية عمل الأشياء وتفاعلها مع بعضها البعض، سواء كانت هذه الأشياء منظمات، أو مجتمعات، أو حتى أنظمة بيئية.
وتُقسم هذه النُظم في بيئة الأعمال إلى قسمين هما:
- النُظم المغلقة: هي النُظم المعزولة التي لا تُؤثّر أو تتأثر بالبيئة الموجودة ضمنها.
- النُظم المفتوحة: هي النُظم التي تَختلف عن النُظم المغلقة؛ إذ تتعامل وتتفاعل باستمرار مع البيئة التي توجد بها، ممّا يؤدّي إلى تأثيرها وتأثّرها مع كافة مكوناتها.
نظريات الفكر الإداريّ
نظريات الفكر الإداري، تلك الشجرة المتفرعة التي تحمل ثمارًا متنوعة من الأفكار والمبادئ، هي عبارة عن مجموعة من الاتجاهات الفكرية التي تتناول جوانب الإدارة المختلفة.
هذه النظريات، التي غالبًا ما تُعرف باللغة الإنجليزية باسم “Theories of Administrative Thought”، قد تطورت عبر الزمن لتشكل خريطة طريق شاملة لفهم كيفية تنظيم المؤسسات وإدارتها بكفاءة وفعالية.
بدءًا من المبادئ الكلاسيكية التي ركزت على التخطيط والتنظيم والرقابة، وصولًا إلى النظريات الحديثة التي تأخذ بعين الاعتبار العامل البشري وديناميكيات التغيير المستمر، فإن هذا المجال المعرفي يزخر بالتنوع والعمق.
فكل نظرية من هذه النظريات تسعى إلى تقديم إجابات مبتكرة للتحديات التي تواجه المنظمات، وإلى تطوير أدوات وأساليب جديدة لتحسين الأداء وتحقيق الأهداف المنشودة.
وبالتالي، فإن نظريات الفكر الإداري لا تمثل مجرد مجموعة من الأفكار المجردة، بل هي بمثابة أدلة عملية تساعد القادة والمديرين على اتخاذ القرارات الصحيحة وتوجيه مؤسساتهم نحو النمو والازدهار.
وتُقسم إلى نوعين رئيسيين هما:
- النظريات غير الاقتصاديّة في الفكر الإداريّ: هي النظريّات التي صاغها مجموعةٌ من الباحثين وِفقاً لأبحاثٍ مُتعلّقة بعلميّ الاجتماع والنفس، وتعتمد هذه النظريّات على مجالاتٍ دراسيّة متنوّعة، ومُرتبطة بطبيعة المؤسسات الحكوميّة والصناعيّة.
- النظريات الاقتصاديّة في الفكر الإداريّ: هي النظريّات التي اعتَمَدت على تطبيق علم الاقتصاد ضمن الفكر الإداريّ، واعتمدت على البحث من أجل التعبير بطريقة كميّة عن العلاقات الإداريّة، وظهرت أفكار هذا الاتجاه في الإدارة منذ مَطلع القسم الثاني من القرن العشرين للميلاد.