في بيئة الأعمال شديدة التنافسية اليوم، لم يعد نجاح المؤسسات يعتمد فقط على أدائها الحالي، بل على قدرتها على بناء قادة المستقبل وضمان استمرارية الابتكار والنمو. وهنا يكمن التحدي الأكبر للعديد من المديرين وقادة الموارد البشرية: كيفية النظر إلى ما هو أبعد من مقاييس الأداء اليومية وتحديد الموظفين الذين يمتلكون “الإمكانات” الحقيقية ليصبحوا قادة ومبتكرين في المستقبل.
إن تحديد إمكانات الموظفين ليس مجرد عملية روتينية لتقييم الأداء، بل هو استثمار استراتيجي في رأس المال البشري للمؤسسة. فالموظف الذي يتجاوز أهدافه اليوم قد يكون خبيراً في مجاله، ولكنه ليس بالضرورة الشخص المناسب لقيادة فريق أو قسم في المستقبل. فالإمكانات هي مزيج معقد من الطموح، والقدرة على التعلم، والمرونة، والذكاء العاطفي.
الأداء مقابل الإمكانات: فهم الفرق الجوهري
قبل البدء في البحث عن الموظفين ذوي الإمكانات العالية، من الضروري فهم أن الأداء المتميز ليس مرادفاً للإمكانات العالية. الخلط بين المفهومين هو أحد أكثر الأخطاء شيوعاً في إدارة المواهب، وغالباً ما يؤدي إلى “مبدأ بيتر” (Peter Principle)، حيث تتم ترقية الموظفين إلى أن يصلوا إلى مستوى عدم كفاءتهم.
- الأداء العالي (High Performance): يتعلق بكيفية إنجاز الموظف لمهام وظيفته الحالية. إنه يقيس الكفاءة والفعالية في تحقيق الأهداف المحددة ضمن دوره الحالي. الموظف عالي الأداء هو شخص موثوق به، يتقن مهاراته، ويقدم نتائج ممتازة باستمرار. الأداء ينظر إلى الماضي والحاضر.
- الإمكانات العالية (High Potential): تتعلق بقدرة الموظف على النمو والنجاح في أدوار مستقبلية أكثر تحدياً وتعقيداً. إنها تقيس قدرته على تعلم مهارات جديدة، والتكيف مع التغيير، وتولي مسؤوليات قيادية. الموظف عالي الإمكانات قد لا يكون الأفضل أداءً في فريقه حالياً (رغم أنه غالباً ما يكون أداؤه جيداً)، لكنه يظهر السمات التي تؤهله للنجاح على المدى الطويل. الإمكانات تنظر إلى المستقبل.
للتوضيح، تخيل لاعب كرة قدم هدافاً بارعاً (أداء عالٍ)، هذا لا يعني بالضرورة أنه سيصبح مدرباً استراتيجياً ناجحاً (إمكانات عالية للقيادة). يتطلب كل دور مجموعة مختلفة من المهارات والكفاءات.
مؤشرات الموظفين ذوي الإمكانات العالية
لتحديد الإمكانات، يجب على المديرين مراقبة مجموعة من السلوكيات والسمات التي تتجاوز مجرد إنجاز المهام. هذه المؤشرات هي مفاتيحك لاكتشاف المواهب الواعدة:
1. الرغبة والقدرة على التعلم السريع (Learning Agility)
الموظفون ذوو الإمكانات العالية هم متعلمون فضوليون بطبيعتهم. إنهم لا يكتفون بما يعرفونه، بل يسعون بنشاط لاكتساب معارف ومهارات جديدة.
- كيف تلاحظها؟ يطرحون أسئلة عميقة، يطلبون التغذية الراجعة بانتظام ويطبقونها، يتقبلون المفاهيم المعقدة بسرعة، ويجدون حلولاً لمشكلات لم يواجهوها من قبل.
2. الذكاء العاطفي المرتفع (High Emotional Intelligence)
القدرة على فهم وإدارة مشاعر الذات ومشاعر الآخرين هي سمة أساسية للقادة الناجحين.
- كيف تلاحظها؟ يبنون علاقات قوية ومبنية على الثقة مع زملائهم، يتعاملون مع النزاعات بهدوء وبشكل بنّاء، يظهرون تعاطفاً حقيقياً، ويستطيعون التأثير في الآخرين وإقناعهم دون الاعتماد على سلطة رسمية.
3. القدرة على التكيف والمرونة (Adaptability and Resilience)
عالم الأعمال يتغير باستمرار. الموظفون الذين يزدهرون في هذا العالم هم أولئك الذين لا يخشون التغيير بل يرحبون به.
- كيف تلاحظها؟ عند مواجهة انتكاسة أو فشل، فإنهم لا ينهارون. بدلاً من ذلك، يتعلمون من أخطائهم، يعدلون نهجهم، ويمضون قدماً بقوة أكبر. إنهم يتعاملون مع الغموض وعدم اليقين بثقة وهدوء.
4. التفكير الاستراتيجي ورؤية الصورة الكبيرة (Strategic Thinking)
بينما يركز معظم الموظفين على مهامهم اليومية، فإن أصحاب الإمكانات العالية يربطون عملهم بالأهداف الأوسع للمؤسسة.
- كيف تلاحظها؟ يفهمون كيف يؤثر عملهم على الأقسام الأخرى وعلى نجاح الشركة ككل. يقدمون اقتراحات تتجاوز نطاق مسؤولياتهم المباشرة، ويظهرون فهماً عميقاً للسوق والمنافسين.
5. الدافع والطموح (Drive and Ambition)
هؤلاء الموظفون لديهم طاقة داخلية تدفعهم للتطور والنمو. طموحهم لا يقتصر على السعي وراء الألقاب والمناصب، بل ينبع من رغبة حقيقية في إحداث تأثير أكبر.
- كيف تلاحظها؟ يتطوعون لتولي مشاريع صعبة، ويظهرون التزاماً يتجاوز ساعات العمل الرسمية، ويبحثون عن فرص لتطوير مهاراتهم القيادية حتى قبل أن يكونوا في منصب إداري.
أدوات واستراتيجيات عملية لتحديد الإمكانات
الاعتماد على الانطباعات الشخصية وحدها ليس كافياً. تحتاج المؤسسات إلى نهج منظم لتحديد المواهب الواعدة. إليك بعض الأدوات الفعالة:
- مصفوفة الأداء والإمكانات (The 9-Box Grid): أداة كلاسيكية تساعد المديرين على تصنيف الموظفين بناءً على محورين: الأداء الحالي والإمكانات المستقبلية. هذا يسمح بتحديد “النجوم الصاعدة” (أداء عالٍ وإمكانات عالية) الذين يستحقون استثمارات تطويرية مكثفة.
- التغذية الراجعة 360 درجة (360-Degree Feedback): جمع الآراء من المديرين والزملاء والمرؤوسين المباشرين يوفر رؤية شاملة حول سلوكيات الموظف وتأثيره. قد يكشف هذا التقييم عن مهارات قيادية وتأثير لا تظهر في تقارير الأداء التقليدية.
- المشاريع الممتدة والمهام الصعبة (Stretch Assignments): أفضل طريقة لاختبار الإمكانات هي وضع الموظف في مواقف تتحدى قدراته الحالية. كلفه بقيادة فريق عمل لمشروع جديد، أو اطلب منه حل مشكلة معقدة خارج نطاق خبرته. طريقة تعامله مع التحدي ستكشف الكثير عن مرونته وقدرته على التعلم.
- الملاحظة السلوكية المستمرة: يجب على المديرين أن يكونوا مراقبين نشطين لسلوكيات فرقهم. كيف يتصرف الموظف في اجتماع صعب؟ كيف يستجيب للنقد البنّاء؟ كيف يتعاون مع زميل صعب المراس؟ هذه الملاحظات اليومية لا تقدر بثمن.
- المقابلات المهنية التطويرية: عقد اجتماعات منتظمة مع الموظفين لمناقشة طموحاتهم المهنية وأهدافهم طويلة المدى. هذه المحادثات تظهر من لديه الدافع للتطور ومن هو راضٍ عن وضعه الحالي.
ختاما
إن تحديد إمكانات الموظفين هو عملية مستمرة تتطلب جهداً والتزاماً من الإدارة. إنه ليس مجرد “صيد للمواهب”، بل هو بناء ثقافة تقدر النمو والتطور وتشجع الموظفين على إطلاق العنان لقدراتهم الكاملة.
عندما تستثمر المؤسسة في تحديد ورعاية أصحاب الإمكانات العالية، فهي لا تضمن فقط وجود خط قوي من القادة المستقبليين، بل تخلق أيضاً بيئة عمل محفزة تجذب وتحتفظ بأفضل الكفاءات. تذكر أن الموظف الذي تكتشف إمكاناته اليوم قد يكون هو القائد الذي سيقود مؤسستك إلى النجاح غداً.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
مدونتك كنزٌ من المعرفة! يُبهرني دائمًا عمق أفكارك ووضوح كتاباتك. استمر في هذا العمل الرائع!
لقد كنت أتصفح الإنترنت لأكثر من 3 ساعات اليوم ولكن لم أجد أي مقال مثير للاهتمام مثل مقالتك. إنه يستحق ذلك بالنسبة لي. في رأيي، إذا قام جميع أصحاب المواقع والمدونين بإنشاء محتوى جيد كما فعلت، فإن الويب سيكون أكثر فائدة من أي وقت مضى.