ما معنى تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؟ ومن قائل هذه العبارة؟

تعبر عبارة “تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن” عن خيبة الأمل والإحباط الناتجين عن عدم تحقق التوقعات أو الوصول إلى الأهداف المنشودة، حيث يشير هذا التعبير البليغ إلى مواجهة الإنسان لعقبات وتحديات غير متوقعة تعترض طريقه نحو تحقيق أمانيه وطموحاته، مُسببةً تأخيرها أو حتى استحالة الوصول إليها.

ويعود أصل هذا المثل الشعري إلى بيت شعرٍ قاله الشاعر العربي الشهير أبو الطيب المتنبي في قصيدته “بم التعلّل”، وذلك عندما قصد مجلس سيف الدولة الحمداني، ليُفاجأ هناك بشائعة وفاته وهو لا يزال حيًا، ما أثّر فيه بشدة وألهمه كتابة هذه القصيدة المؤثرة التي أصبحت جزءًا من التراث الأدبي العربي، حيث يُستخدم هذا البيت الشعري كمثلٍ شائعٍ للتعبير عن مواجهة الظروف المعاكسة وخيبة الأمل في تحقيق ما يتمناه المرء، مُسلّطًا الضوء على فكرة أن الحياة لا تسير دائمًا وفقًا لرغبات الإنسان وتخطيطه. ومن أبيات هذه القصيدة:

لا تَلق دهرك إلا غير مكترثٍ مادام يصحب في روحك البدنُ

فما يديم سرورٌ ما سُررت به ولا يردّ عليك الفائت الحزنُ

يا من نُعيت على بعدٍ بمجلسه كلٌّ بما زعم الناعون مرتهن

ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

إني أصاحب حلمي وهو بي كرمٌ ولا أصاحب حلمي وهو بي جبنُ

ولا أقيم على مالٍ أُذل به ولا ألذ بما عرضي به درن

ويُروى أنّ المتنبي نفسه استخدم هذه العبارة تحديدًا عندما خابت توقعاته في الحصول على الإمارة، ممّا أصابه بالإحباط وخيبة الأمل، فاستحضر هذا البيت كدليلٍ على أنّ الأمور لا تجري دائمًا كما يتمنى المرء. هذا المعنى المجازي يُشير إلى أنّ الإنسان يجب أن يكون مُستعدًا لتقبّل التغيّرات التي قد تطرأ على حياته مع مرور الزمن، وأن يُدرك أنّ الحياة لا تخلو من الصعاب والتحديات، وأنّ السعادة المطلقة ليست حالةً دائمة، بل تتخللها فتراتٌ من المشاعر السلبية والتجارب القاسية.

أما المعنى الحرفي للعبارة، فيُصوّر الرياح كقوةٍ طبيعيةٍ قادرةٍ على إعاقة حركة السفن، التي تُمثّل هنا سعي الإنسان وكدحه في طلب الرزق، ممّا يُعيق وصوله إلى مبتغاه. والجدير بالذكر أنّ المقصود بـ “السفن” هنا ليس فقط الجماد، أي السفينة المادية، بل يشمل أيضًا قادة السفن، أي الأشخاص الذين يُوجّهون حياتهم ويَسعون لتحقيق أهدافهم، ممّا يُعمّق دلالة المثل ويجعله أكثر شموليةً في وصف طبيعة الحياة وتقلباتها.

أبو الطيب المتنبي، واسمه الحقيقي أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، يُعتبر أحد أعظم شعراء اللغة العربية على مر العصور، بل يراه البعض أعظمهم على الإطلاق. وُلد في الكوفة عام 915 ميلادية (303 هـ) وعاش حياة حافلة بالتنقلات والترحال بين بلاط الأمراء والملوك، حيث كان يكسب رزقه من مدحهم بشعره، حتى لُقّب بـ “مالئ الدنيا وشاغل الناس” لكثرة ما شغل الناس بشعره، ولأنه كان دائمًا محور الحديث في الأوساط الأدبية.

تميز شعر المتنبي بقوة وجزالة ألفاظه، وعمق معانيه التي لم تقتصر على المدح والفخر، بل تناولت أيضًا مواضيع فلسفية وحكمًا عميقة حول الحياة والموت والقدر، وكبريائه وشجاعته التي كان يُجسدها في شعره، بالإضافة إلى وصفه البارع للمعارك والحروب تصويرًا دقيقًا ومؤثرًا، وذلك بحكم تجربته في الحياة وتنقلاته بين الأمراء والقادة. من أبرز خصائص شعره أيضًا الفخر والاعتزاز بالنفس، حيث كان يعتز بنفسه وشعره اعتزازًا كبيرًا، وكثيرًا ما تغنى بصفاته وشجاعته وفروسيته في شعره، ما جعله شخصية فريدة في تاريخ الأدب العربي.

من أشهر من مدحهم المتنبي سيف الدولة الحمداني في حلب، حيث قضى فترة طويلة في بلاطه. ترك المتنبي إرثًا شعريًا ضخمًا ما زال يُدرس ويُحتفى به حتى اليوم، ومن أشهر أبياته الشعرية التي خلدت اسمه في سجلات التاريخ: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم”، و “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم”. باختصار، أبو الطيب المتنبي شاعر عبقري ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الأدب العربي، وما زال شعره يُلهم الأجيال حتى اليوم، فهو قامة شعرية شامخة يُعتبر من أعمدة الشعر العربي بلا منازع.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية