النشاط الإشعاعي، تلك الظاهرة الفيزيائية العجيبة التي تتجلى في انبعاث طاقة وجسيمات دون ذرية من أنوية ذرات معينة بشكل تلقائي ودائم، دون الحاجة إلى أي مؤثر خارجي.
هذه الخاصية المميزة لبعض العناصر ونظائرها الصناعية، ترجع إلى حالة عدم الاستقرار التي تعيشها النواة الذرية، والتي تسعى جاهدة للوصول إلى حالة أكثر استقرارًا من خلال عملية التحلل الإشعاعي.
يتمثل هذا التحلل في تحول النواة غير المستقرة إلى نواة أخرى، إما لأحد العناصر أو لواحد من نظائر العنصر نفسه، وذلك مصحوبًا بإطلاق جسيمات ألفا أو بيتا أو أشعة جاما، أو مزيج منها. وتختلف سرعة هذا التحلل من عنصر لآخر، فلكل عنصر مشع ما يعرف بالعمر النصفي، وهو الزمن الذي يستغرقه تحلل نصف عدد النوى المشعة في عينة معينة.
وبالتالي، فإن النشاط الإشعاعي هو عملية طبيعية مستمرة، تتوقف على طبيعة النواة المشعة وعددها في العينة، ولا تتأثر بالعوامل الخارجية مثل درجة الحرارة والضغط. وتجد هذه الظاهرة تطبيقات واسعة في مجالات متعددة، بدءًا من الطب النووي وصولاً إلى توليد الطاقة النووية، مع ضرورة التعامل معها بحذر نظراً لآثارها الإشعاعية المحتملة على الكائنات الحية.
قياس النشاط الإشعاعي
إن النشاط الإشعاعي يُقاس بعدد الذرات التي تخضع للتحلل الإشعاعي وانبعاث الإشعاع منها في كل ثانية. ولقياس هذا المعدل المتسارع، استخدم العلماء أدوات متخصصة قادرة على اكتشاف ورصد أنواع الإشعاع المختلفة المنبعثة من العينة المشعة، سواء كان ذلك الإشعاع على شكل جسيمات ألفا أو بيتا أو أشعة جاما.
نظراً لكبر الأعداد الهائلة للذرات التي قد تنحل في الثانية الواحدة، فقد وجد العلماء ضرورة تحديد وحدات قياس موحدة للتعبير عن هذا النشاط الإشعاعي الهائل. ومن أبرز هذه الوحدات الكوري “Ci”، والتي سميت تكريمًا للزوجين بيير وكوري، اللذين ساهما بشكل كبير في اكتشاف عنصر الراديوم ودراسة خصائصه الإشعاعية.
ويمثل الكوري وحدة كبيرة تعادل تقريبًا 37 مليار انحلال إشعاعي في الثانية. ومع تطور علم الفيزياء، تم اعتماد نظام الوحدات الدولي (SI) الذي يعتمد على وحدة البكريل، والتي سميت تكريمًا لهنري بيكريل، مكتشف الظاهرة الإشعاعية. ويعادل البكريل انحلالًا إشعاعيًا واحدًا في الثانية، مما يجعله وحدة أصغر وأكثر دقة من الكوري.
أنواع الإشعاعات
يوجد عدة أنواع من الإشعاعات، حيث تمتلك كل منها خصائص مختلفة، ومن أشهر الإشعاعات المؤينة:
أشعة غاما
تشكل نوعًا خاصًا من الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي يجمعها قرابة وثيقة بأشقائها الأشعة السينية والضوء المرئي وموجات الراديو. لكن ما يميز أشعة غاما هو قدرتها الهائلة على النفاذ عبر المواد، فبينما تستطيع الأشعة السينية اختراق الجلد والعظام، فإن أشعة غاما تتخطى هذه الحواجز وتخترق حتى المواد الكثيفة مثل الصلب.
هذا النفاذ العميق يجعلها أداة قوية في مجالات الطب والصناعة، حيث تستخدم في تشخيص وعلاج بعض الأمراض السرطانية، كما تستخدم في عمليات التعقيم والتطهير. وعلى الرغم من فوائدها الكثيرة، إلا أن التعرض لكميات كبيرة من أشعة غاما قد يسبب أضرارًا جسيمة للخلايا الحية، مما يؤدي إلى الإصابة بأمراض مثل السرطان.
ولذلك، فإن التعامل مع هذه الأشعة يتطلب اتخاذ احتياطات أمنية مشددة واستخدام معدات واقية خاصة. وبالرغم من قدرتها الهائلة على النفاذ، إلا أن هناك مواد معينة يمكنها أن توقف أشعة غاما، مثل الرصاص والخرسانة الكثيفة، حيث تعمل هذه المواد على امتصاص طاقة الأشعة وتحويلها إلى حرارة.
وبذلك، فإن أشعة غاما تبقى لغزًا يحير العلماء، فهي تحمل في طياتها قوة هائلة وقدرة على اختراق المادة، مما يجعلها أداة قوية في خدمة البشرية، ولكنها في الوقت نفسه تشكل خطرًا كبيرًا إذا لم يتم التعامل معها بحذر.
إشعاع بيتا
يشكل إشعاع بيتا أحد أنواع الإشعاعات النووية التي تنبعث من النوى الذرية غير المستقرة. ويتكون هذا الإشعاع بشكل أساسي من إلكترونات عالية الطاقة، والتي تُطلق عليها أيضًا جسيمات بيتا. تتميز جسيمات بيتا بقدرتها على الاختراق العميق للأجسام مقارنة بجسيمات ألفا، حيث تستطيع اختراق عدة سنتيمترات من الماء، وذلك بسبب سرعتها العالية وحجمها الصغير.
وبالرغم من ذلك، يمكن حجب إشعاع بيتا بسهولة نسبية باستخدام مواد مثل الألومنيوم، فطبقة رقيقة من الألومنيوم بسماكة بضعة مليمترات تكفي لوقف معظم جسيمات بيتا. وتجدر الإشارة إلى أن قدرة جسيمات بيتا على الاختراق تختلف باختلاف طاقتها، فكلما زادت طاقة الجسيم، زادت قدرته على الاختراق.
وتستخدم إشعاعات بيتا في العديد من التطبيقات، منها الطب النووي حيث تستخدم في تشخيص وعلاج بعض الأمراض، وكذلك في الصناعة حيث تستخدم في عمليات التعقيم والتفتيش.
النيوترونات
النيوترونات، تلك الجسيمات دون الذرية التي تتواجد في نوى الذرات، تحمل سمة فريدة تتمثل في عدم حملها لأي شحنة كهربائية. هذه الخاصية تجعلها تختلف عن البروتونات المشحونة موجباً والإلكترونات المشحونة سالباً، وتمنحها قدرة على اختراق المادة بسهولة أكبر.
ورغم أن النيوترونات لا تسبب التأين مباشرة، إلا أنها قادرة على توليد أنواع أخرى من الإشعاع المؤين عند تفاعلها مع ذرات المادة. فعند اصطدام النيوترون بذرة، قد يؤدي ذلك إلى انشطار النواة وإطلاق جسيمات ألفا أو بيتا أو أشعة جاما أو حتى أشعة سينية، وكلها أشعة مؤينة قادرة على إحداث تأين في المادة التي تمر بها.
وبسبب قدرتها على الاختراق العميق للمادة، تتطلب حماية فعالة من النيوترونات استخدام مواد كثيفة مثل الخرسانة أو الماء أو البارافين، حيث تعمل هذه المواد على إبطاء النيوترونات وتشتيتها، مما يقلل من قدرتها على التفاعل مع المادة وإحداث الضرر.
إشعاع ألفا
إشعاع ألفا هو أحد أنواع الإشعاعات النووية التي تتكون من جسيمات ثقيلة مشحونة بشحنة موجبة، وهي في الأساس عبارة عن نواة ذرة الهيليوم. تنبعث هذه الجسيمات من نوى العناصر المشعة الثقيلة مثل اليورانيوم والراديوم، وذلك خلال عملية الاضمحلال الإشعاعي.
تتميز جسيمات ألفا بقدرة تأين عالية، أي قدرتها على انتزاع الإلكترونات من الذرات التي تصطدم بها، مما يجعلها ضارة بالأنسجة الحية. ورغم ذلك، فإن قدرتها على الاختراق ضعيفة للغاية، بحيث يمكن حجبها بسهولة باستخدام ورقة رقيقة أو حتى الطبقة الخارجية للجلد.
هذا يعني أن إشعاع ألفا يشكل خطرًا محدودًا إذا كان المصدر الإشعاعي خارج الجسم. ومع ذلك، فإن استنشاق أو ابتلاع المواد المشعة التي تنبعث منها جسيمات ألفا يمكن أن يؤدي إلى أضرار جسيمة، حيث يمكن لهذه الجسيمات أن تتسبب في تلف الأنسجة الحيوية الداخلية، مثل الرئتين والجهاز الهضمي، مما قد يؤدي إلى الإصابة بأمراض خطيرة مثل السرطان.