قبل الخوض في مسألة حكم تأخير السحور، ينبغي أولًا توضيح مفهوم السحور نفسه، فالسحور هو ما يتناوله الصائم من طعام وشراب في وقت السحر، وهو الجزء الأخير من الليل الذي يسبق طلوع الفجر، ويُشار إلى أن كلمة “السحور” تُستخدم بصيغتين: “السَّحور” بالفتح، وهي اسم لما يُؤكل ويُشرب في ذلك الوقت، و”السُّحور” بالضم، وهي الفعل نفسه، أي تناول الطعام والشراب في السحر.
وقد أوضح ابن الأثير هذا الفرق بقوله: “هُوَ بِالْفَتْحِ اسْمُ مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ وَقْتَ السَّحَرِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ، وَبِالضَّمِّ الْمَصْدَرُ وَالْفِعْل نَفْسُهُ، أَكْثَرُ مَا رُوِيَ بِالْفَتْحِ”، ومع ذلك، يرى البعض أن الصواب هو استخدام الضم، وذلك لأن الفتح يشير إلى الطعام والبركة، بينما الثواب والأجر يكمن في الفعل نفسه، وليس في مجرد تناول الطعام.
وقد حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على تناول السحور، كما جاء في الحديث الشريف عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: “تَسَحَّرُوا فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً”، وهذا الحديث يُظهر بوضوح أهمية السحور للصائم، وما فيه من فضل وبركة تعين على الصيام.
حكم تأخير السحور
لقد أجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على استحباب تأخير وجبة السحور إلى ما قبل طلوع الفجر الصادق، وذلك استنادًا إلى هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم وسنته، حيث رُوي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: “أنَّهُمْ تَسَحَّرُوا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ قَامُوا إلى الصَّلَاةِ، قُلتُ: كَمْ بيْنَهُمَا؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ أوْ سِتِّينَ، يَعْنِي آيَةً”.
وفي رواية أخرى عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال: “كُنْتُ أَتَسَحَّرُ فِي أَهْلِي، ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بِي أَنْ أُدْرِكَ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، ففي هذين الحديثين النبويين الشريفين دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر السحور إلى قبيل أداء صلاة الفجر بوقت قصير، مما يشير إلى أن تأخير السحور هو السنة المستحبة.
ومع ذلك، فقد وضع الفقهاء قيدًا لهذا الاستحباب، وهو ألا يخشى الصائم من طلوع الفجر، فإذا خشي من طلوع الفجر قبل أن ينتهي من سحوره، فإنه يجب عليه المبادرة إلى إتمام سحوره قبل طلوع الفجر، وذلك لضمان صحة صيامه، إذ أن الصيام يبدأ بطلوع الفجر.
حكم تأخير السحور إلى وقت الشك
بعد الحديث عن حكم تأخير السحور، من الجدير الحديث عن حكم تأخير السحور إلى وقت الشك، والمقصود بوقت الشك: أيّ الشك في طلوع الفجر، فقد اختلف الفقهاء في حكم تأخير السحور إلى وقت الشك كما يأتي:
الجواز
يجوز تأخير السحور إلى وقت الشك، وهو الرأي الذي تبناه الشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية، مستندين في ذلك إلى قاعدة فقهية راسخة وهي أن الأصل بقاء الليل ما لم يثبت خلاف ذلك بشكل قاطع.
وقد استدلوا على ذلك بما ورد عن الآجري رحمه الله، حيث قال: “لَوْ قَال لِعَالِمَيْنِ: ارْقُبَا الْفَجْرَ، فَقَال أَحَدُهُمَا: طَلَعَ، وَقَال الآْخَرُ: لَمْ يَطْلُعْ، أَكَل حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ طَلَعَ”، مبيناً بذلك أنه في حالة الشك، يستمر الأصل وهو جواز الأكل والشرب، حتى يحصل اليقين بطلوع الفجر. ولم يقتصر هذا الرأي على الفقهاء، بل ذهب إليه أيضاً عدد من الصحابة رضي الله عنهم.
الكراهة
يرى فقهاء الحنفية أن تأخير السحور إلى وقت الشك، أي اللحظات التي تسبق طلوع الفجر مباشرةً، أمر مكروه، ويستندون في ذلك إلى الحديث النبوي الشريف الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما، حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ”.
يُفهم من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين على تجنب الأمور المشتبهة التي قد تؤدي إلى الوقوع في المحرمات، ويشبه من يقترب من هذه الشبهات براعٍ يرعى غنمه حول حمى ملك، أي منطقة محظورة، فمن المحتمل أن تتجاوز غنمه هذه الحدود وتقع في المحظور.
وبالقياس على ذلك، فإن تأخير السحور إلى وقت الشك يجعل الصائم على حافة الوقوع في محظور الإمساك بعد طلوع الفجر، وبالتالي إفساد صيامه. لذا، فإن الأفضل للمسلم أن يتناول سحوره قبل وقت الشك، وأن يترك مسافة أمان بينه وبين وقت الإمساك، وذلك امتثالًا لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن الشبهات.
الحرمة
تتعدد الآراء الفقهية حول حكم تأخير السحور إلى وقت الشك في طلوع الفجر، حيث يرى جمهور المالكية أن هذا التأخير يعد محرمًا، ويستوجب قضاء ذلك اليوم من صيام الفرض، وذلك احتياطًا لحرمة الوقت ودفعًا للوقوع في المحظور.
ومع ذلك، يستثنى من هذا الحكم حالة واحدة، وهي إذا تبين للمتسحر بعد ذلك أنه تناول طعامه قبل طلوع الفجر الصادق، ففي هذه الحالة لا يلزمه القضاء، لأن الأصل بقاء الليل، واليقين لا يزول بالشك.
أما بالنسبة لصيام التطوع، فلا خلاف بين الفقهاء على أنه لا يجب قضاء اليوم الذي تم فيه تأخير السحور إلى وقت الشك، وذلك للتخفيف في أحكام التطوع. ومن جهة أخرى، يرى المالكية أن من أفطر عمدًا في نهار رمضان عليه الكفارة، وهي صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا، وذلك تعظيمًا لحرمة شهر رمضان. إلا أن هذه الكفارة لا تجب على من تناول الطعام في وقت الشك، وذلك لأن الأصل بقاء الليل، والشك لا يزيل اليقين.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.