لم يظهر مفهوم النقود بشكل مفاجئ أو بين ليلة وضحاها، بل شهد تطورًا تدريجيًا بطيئًا نسبيًا على مر العصور، حيث تبلورت خصائصه وتحسنت وظائفه عبر مئات السنين من التطورات الاقتصادية والاجتماعية. ويعتبر الاقتصاديون اختراع النقود من بين أهم الابتكارات البشرية على مر التاريخ، حيث يضاهي في أهميته اختراعات أخرى غيرت وجه الحضارة الإنسانية كالدولاب وغيره من الأدوات والتقنيات الأساسية.
وقد بدأ استخدام المال في البداية كجزء من التبادل التجاري بين السلع والبضائع، حيث ظهرت أولاً النقود المعدنية بأشكالها المختلفة، ثم تطور الأمر ليحل محلها استخدام النقود الورقية لأسباب اقتصادية بحتة تتعلق بسهولة الحمل والتداول وتوفير الملاءمة في المعاملات التجارية.
ومع مرور الوقت، توسع نطاق الأدوات المالية ليشمل شيكات البنوك التي سهلت عمليات الدفع المؤجلة، والكمبيالات التي تعتبر وعودًا بالدفع في تاريخ محدد، بالإضافة إلى السندات الائتمانية التي تمثل قروضًا قابلة للتداول، لتنضم هذه الأدوات المالية المتنوعة إلى جانب العملات النقدية لتشكل معًا أهم أنواع النقود وأكثرها استخدامًا في العصر الحديث.
ومن الجدير بالذكر أن لكل دولة في عالمنا المعاصر نظامها المالي الخاص بها، والذي يشمل عملتها الرسمية وأدواتها المالية، وبالتالي ليس من الضروري أن تكون عملة دولة ما مقبولة أو متداولة خارج حدودها الجغرافية، وهذا الاختلاف في العملات المقبولة بين الدول يُعد في الواقع أحد الأسباب الرئيسية التي تُحدث اختلافًا جوهريًا بين التجارة العالمية التي تتعدى الحدود وبين التجارة الداخلية التي تقتصر على نطاق الدولة الواحدة، حيث يتطلب التعامل التجاري الدولي فهمًا لأنظمة صرف العملات وأسعارها المتغيرة باستمرار.
تعريف النقود
يُعرّف علماء الاقتصاد النقود بأنها أي سلعة أو أداة تحظى بقبول عام وواسع النطاق كوسيلة للدفع النهائي في مقابل الحصول على مختلف الخدمات والمنتجات الاقتصادية، وكذلك تستخدم في تسديد الديون والالتزامات المالية.
وبشكل عام، يمكن اعتبار أي شيء بمثابة مال أو نقد، طالما أنه يؤدي الوظائف الأساسية الثلاث التي تُناط بالنقود، وهي العمل كوسيلة للتبادل التجاري تسهل حركة البيع والشراء، والقدرة على تخزين القيمة والحفاظ عليها عبر الزمن، والقيام بدور وحدة الحساب التي تُستخدم في تقييم وتثمين السلع والخدمات.
ونتيجة لهذه المرونة في تعريف النقود، فليس من المستغرب أن نشهد تنوعًا كبيرًا في أشكالها عبر التاريخ البشري، حيث اتخذت النقود صورًا وأشكالًا مختلفة ومتنوعة عبر العصور والحضارات، فنجد على سبيل المثال الأصداف التي تشبه العملة المعدنية والتي كانت تُستخدم كنقود في مناطق مختلفة من أفريقيا.
كما نجد العجلات الحجرية الكبيرة التي كانت تُستخدم كنظام نقدي في جزيرة ياب الواقعة في المحيط الهادي، بالإضافة إلى العقود المصنوعة من الخرز والتي كانت تُعرف باسم “وامبوم” والتي استخدمها السكان الأصليون لأمريكا والمستوطنون الأوائل كنظام للتبادل التجاري وقيمة مالية.
أنواع النقود
هناك أربعة أنواع مختلفة من النقود، وهي:
النقود السلعية (Commodity Money)
النقود السلعية، التي تُعتبر أبسط أشكال النقود وأقدمها على الإطلاق، تمثلت في استخدام موارد طبيعية نادرة كأدوات للتبادل التجاري، ومخازن للقيمة، ووحدات للقياس. هذا النوع من النقود يرتبط ارتباطًا وثيقًا، بل يُعتبر الشكل الأولي، لنظام المقايضة التقليدي، الذي يعتمد على مبادلة الخدمات والسلع مباشرةً بسلع وخدمات أخرى.
لقد سهّل ظهور النقود السلعية بشكل كبير العمليات التجارية والاقتصادية، حيث أصبحت هذه السلع بمثابة وسيلة تبادل مقبولة على نطاق واسع من قبل غالبية أفراد المجتمع. من الجدير بالذكر في هذا السياق أن قيمة النقود السلعية تُحدد بناءً على القيمة الحقيقية للسلعة المستخدمة نفسها، أي أن السلعة في حد ذاتها تتحول إلى نقود، مما يمنحها قيمة ذاتية.
من الأمثلة الشائعة على النقود السلعية نذكر القطع الذهبية التي لطالما اعتُبرت مخزنًا للقيمة، والأصداف التي استُخدمت في العديد من الحضارات كعملة للتبادل، والتوابل النادرة التي كانت تُقدّر بقيمة عالية، بالإضافة إلى الخرز وغيرها من السلع التي حظيت بقبول عام كأدوات للتبادل التجاري.
النقود الورقية (Fiat Money)
تُعتبر النقود الورقية، المعروفة أيضًا باسم “Fiat Money”، نظامًا نقديًا فريدًا يستمد قيمته بشكل كامل من السلطة الحكومية، حيث تُصدر الحكومة أوامر وقوانين تضفي الشرعية والقوة القانونية على هذه النقود، مُلزمةً جميع الأفراد والمؤسسات والكيانات داخل حدود الدولة بقبولها والاعتراف بها كوسيلة دفع مُعترف بها رسميًا، ويترتب على المخالفين الذين يرفضون التعامل بها أو قبولها عواقب قانونية قد تصل إلى فرض غرامات مالية أو حتى عقوبات بالسجن في بعض الحالات.
وهذا ما يُميز النقود الورقية عن النقود السلعية التي تستند قيمتها إلى وجود سلعة مادية كالذهب أو الفضة تدعمها، فالنقود الورقية لا ترتبط بأي أصول مادية أو سلع حقيقية، بل إن قيمتها الجوهرية أو المادية غالبًا ما تكون أقل بكثير من قيمتها الاسمية أو الظاهرية المُثبتة عليها.
وتستمد هذه النقود قيمتها السوقية من ديناميكية العرض والطلب في السوق، حيث يتحدد سعرها وقوتها الشرائية بناءً على تفاعل قوى السوق، ويعتمد النظام الاقتصادي العالمي الحديث بشكل كبير على هذا النوع من النقود، حيث تُعتبر العملات النقدية المتداولة والفواتير الورقية أمثلة واضحة على استخدام النقود الورقية في المعاملات اليومية والتجارية.
النقود الائتمانية (Fiduciary Money)
النقود الائتمانية، المعروفة أيضًا باسم (Fiduciary Money)، تستمد قيمتها بشكل أساسي من الثقة العامة في قبولها كوسيلة للتبادل التجاري والاقتصادي، حيث يُفترض أن تكون هذه النقود مقبولة على نطاق واسع لإتمام المعاملات المختلفة. وهذا ما يميزها عن النقود الورقية التقليدية، التي تستند إلى إعلان رسمي من السلطات الحكومية لتحديدها كعملة قانونية مُلزمة، بمعنى أن القانون يُلزم الأفراد والجهات بقبولها كوسيلة للدفع وتسوية الديون.
في المقابل، لا تحتاج النقود الائتمانية إلى هذا التصريح الرسمي لتكتسب قوتها في التداول، إذ لا يوجد قانون يُلزم الأفراد بقبولها، بل يعتمد قبولها على الثقة في الجهة المُصدرة لها. هذه الجهة تتعهد، بشكل أو بآخر، باستبدال هذه النقود الائتمانية بنقود ورقية رسمية أو بسلع حقيقية ذات قيمة، كالذهب أو الفضة على سبيل المثال.
وطالما أن الأفراد والمؤسسات يثقون في التزام المُصدر بهذا الوعد، أي أنهم على يقين بأنه سيتم الوفاء بالعهد واستبدال النقود الائتمانية بقيمتها الحقيقية عند الطلب، فإنهم سيستمرون في استخدام هذه النقود الائتمانية في معاملاتهم اليومية بنفس الطريقة التي يستخدمون بها النقود الورقية أو السلعية المدعومة رسميًا.
من الأمثلة الشائعة على النقود الائتمانية نذكر الشيكات المصرفية التي تعتمد على ثقة المستفيد في وجود رصيد كافٍ في حساب صاحب الشيك، والأوراق النقدية الصادرة عن البنوك المركزية قبل أن تصبح عملة رسمية قانونية، وكذلك الكمبيالات التجارية التي تمثل وعودًا بالدفع في تاريخ لاحق.
أوراق البنوك التجارية (Commercial Bank Money)
تُعتبر أوراق البنوك التجارية، أو ما يُعرف بـ “Commercial Bank Money”، نوعًا من أنواع النقود التي تُشكل مطالبات أو مستحقات مالية تجاه مؤسسات مالية مُعترف بها، حيث يُمكن استخدام هذه الأوراق كأداة دفع مُعتمَدة لشراء مُختلف أنواع السلع والخدمات المُتاحة في الأسواق.
وتُمثّل هذه الأوراق جزءًا هامًا من العملة المتداولة والتي تتكوّن في أساسها من ديون قامت البنوك التجارية بتوليدها وإنتاجها من خلال عملياتها المالية. وبشكل أكثر تفصيلًا، يُمكن القول إنّ إنتاج أوراق البنوك التجارية يتمّ عبر ما يُعرف بـ “نظام العمل المصرفي الاحتياطي الجزئي”، وهو نظام مالي بالغ الأهمية في آليات عمل البنوك.
يُمكن وصف نظام المصرف الاحتياطي الجزئي على أنّه عبارة عن عملية تقوم من خلالها البنوك التجارية بمنح قروض ذات قيمة مالية اسمية أكبر من القيمة الحقيقية التي تحملها هذه القروض في الواقع.
وعند هذه النقطة تحديدًا، من الضروري أن نُشير إلى أنّ أوراق البنوك التجارية تُعتبر في جوهرها عبارة عن ديون تقوم البنوك التجارية بتوليدها وإنتاجها، حيث يُمكن استبدال هذه الأوراق لاحقًا بنقود حقيقية أو استخدامها بشكل مباشر لشراء مُختلف أنواع البضائع والخدمات المُتاحة في الأسواق، ممّا يُسهّل حركة التجارة ويُنشّط الاقتصاد.
خصاص النقود
- القبول العام: أن تكون النقود مقبولة من الجميع كوسيلة للتبادل والتعامل هو أهمّ خصائصها. وعلى هذا، تكون مقبولة بشكل عام. لا أحد ينكر قبول النقود كوسيلة للتبادل. فالناس لا يترددون في قبولها كمعيار للدفع.
- قياس القيمة: يمكن بسهولة تثمين قيمة أي سلعة أو خدمة عن طريق أنواع النقود المختلفة، فهي مقبولة كمعيار للقيمة.
- عامل فعال: النقود عامل نشط في النظام الاقتصادي، فهي مطلوبة في الاقتصاد الحديث بكل عملية تجارية. ولا تبدأ عملية الإنتاج بدون مشاركة النقود.
- الأصول السائلة: النقود هي أصول مرتفعة السيولة، يمكن ببساطة تحويلها إلى سلع وخدمات، ويعد الدين والمخزون والفواتير وغيرها من الأصول السائلة أيضًا لكن سيولة النقود أعلى منها. فأي شخص عليه أولًا أن يحول الأصول السائلة الأخرى إلى نقود، ثم تحويله إلى السلع أو الخدمات المرغوبة، في حين يمكن تحويل المال بشكل مباشر.
- النقود وسيلة وليس غاية: تعني كلمة نقود، الحصول على الأشياء المرغوبة. فالمال بحد ذاته يستخدم لتحقيق الرضا. ويستعمل بشكل غير مباشر للحصول على السلع أو الخدمات لإرضاء الحاجات البشرية.
- القبول الاختياري: ينبغي أن يكون قبول الناس للنقود طوعيًا. فلا يوجد شرط للحصول على الموافقة القانونية. دائمًا ما يتمنى الناس حيازة النقود.
- السيطرة الحكومية: تملك الحكومة فقط الحق في إصدار النقود المقبولة للتعامل في الدولة، وبذلك تحتفظ بالسيطرة على تدفق المال فيها.
تزوير النقود
كثيرًا ما نسمع عن حالات تزوير النقود، ولا يقتصر الموضوع على دولة أو مكان بعينه، فكل البلدان تشهد هذا النوع من محاولات وممارسات الغش، لسبب أو لآخر.
يمكن تعريف تزوير النقود (Counterfeiting Money) بأنّه تصنيع أنواع نقود مزيفة بهدف الربح، وهو نوع من تزييف الخصائص، يتم فيه نسخ شيء ما بقصد الاحتيال والغش، وتمريره بدل الصنف الأصلي أو الحقيقي. وبسبب القيمة الممنوحة للمال ومستوى المهارات التقنية العالي المطلوب، يُعامل التزوير كجريمة منفصلة، ويصنف كنوع قائم لوحده بعيدًا عن أنواع الغش الأخرى.
يعود تاريخ التزوير الغني والمتنوع إلى أنواع النقود المال الأولى، فقد سُخر لمصالح شخصية رغم المخاطرة الكبيرة التي تصل للسجن اليوم، بينما كانت تقود في الماضي إلى الموت. لا يقتصر تأثير التزوير على زعزعة الوضع السياسي والاقتصادي، بل إنّ كل الفئات مرتفعة ومنخفضة القيمة معرضة للهجوم.
تختلف القوانين الخاصة بالتزوير من دولة لأخرى فهي غير موحدة، وجاء أغلبها منبثقًا عن مؤتمر جنيف الدبلوماسي عام 1929م، والذي نتج عنه اتفاق وقعته 32 قوة رئيسية، واعترفت به معظم الدول التي نالت استقلالها بعد ذلك العام. وتعاقب هذه الدول المزورين سواء لصالح عملتها الخاصة، أو لصالح عملات الآخرين. وقد يُسلّم المذنبون من دولة لأخرى حتى لا يهربوا من العقاب عبر التنقل بين البلدان.
رغم أن التزوير بحد ذاته جريمة عقوبتها السجن، فقد تخفف العقوبة عن المشتركين بجرم التزوير، كامتلاك أدوات التزوير، وتمرير النقود المزيفة، أو حيازة تلك النقود. بالإضافة إلى القوانين الصارمة، قد تتخذ بعض الحكومات إجراءات مادية لمنع تزوير النقود، مثل إعطاء المال خصائص وميزات فريدة للتأكد من أنه حقيقي أو مزيف، من ذلك:
- دقة الخطوط في نقوش العملة: حيث تنتج عملية النقش المستخدمة في طباعة المال حدة مميزة لخطوط رفيعة دقيقة، وفروق يمكن إدراكها سريعًا في سماكة الخبر.
- استخدام نوعية مميزة من الورق في النقود الأصلية:، يصنع الورق من القطن والكتان خصيصًا، ويتميز بألياف حريرية زرقاء أو حمراء اللون.
- تصميم حواف مؤلفة من شبكة كالدانتيل بخطوط بيضاء دقيقة مصنوعة بوساطة مخروط هندسي، ويمكن اكتشاف التزوير فيها بسهولة بمساعدة الخطوط غير المنقطعة.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.