القائمة إغلاق

ما هي الطاقة المظلمة؟

إن عالم العلوم زاخرٌ بالأسرار والظواهر المحيرة، وهذا ما يضفي عليه سحرًا وجاذبيةً. ومن بين أكثر هذه الألغاز الكونية إثارةً للفضول، نجد مفهومي الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، اللذين يشكلان تحديًا كبيرًا أمام علماء الفلك والفيزياء على حد سواء.

فبالرغم من القناعة الراسخة لدى المجتمع العلمي بوجود الطاقة المظلمة كقوة كونية حقيقية، إلا أن طبيعتها وتركيبها وآلية قياسها لا تزال تُحيط بها الكثير من علامات الاستفهام. فعندما نتأمل أعماق الفضاء الشاسع، يسترعي انتباهنا ذلك الظلام الدامس الذي يحتضن النجوم والكواكب والأجرام السماوية الأخرى في تناغمٍ بديع.

قد يتبادر إلى أذهاننا أن الجاذبية هي القوة الوحيدة المسؤولة عن هذا الاستقرار والتنظيم المحكم، ولكن الحقيقة أبعد من ذلك. فبالإضافة إلى دور الجاذبية المعروف، يلعب هذا الظلام الكوني، الذي يُطلق عليه اسم الطاقة المظلمة، دورًا حاسمًا في الحفاظ على هذا النظام الكوني المذهل.

فلولا وجود هذه الطاقة المظلمة، لتناثرت النجوم والكواكب في أرجاء الفضاء الشاسع بشكلٍ عشوائي، ولما كان الكون على ما هو عليه من اتساقٍ وجمال. وبناءً على ذلك، وقبل الخوض في التفاصيل العلمية المعقدة، يمكننا أن نُعرّف الطاقة المظلمة ببساطة على أنها ذلك النسيج الخفي الذي يربط أجزاء الكون ببعضها البعض، وتمتلك قوة هائلة تفوق قوة أي شيء آخر في الكون، بل تفوق قوة الكون مجتمعة.

تُعتبر الطاقة المظلمة لغزًا كبيرًا في علم الكونيات، فهي تمثل قوة غامضة تعمل بشكل معاكس لقوة الجاذبية المعروفة، وتلعب دورًا حاسمًا في مصير الكون وتطوره. يُعتقد أن هذه الطاقة المجهولة هي المحرك الأساسي لتسارع وتيرة التمدد الكوني، أي أن المجرات والأجرام السماوية تتباعد عن بعضها البعض بسرعات متزايدة باستمرار.

تشير التقديرات الحالية إلى أن الطاقة المظلمة تشكل حوالي 75% من إجمالي كثلة الطاقة الموجودة في الكون، مما يجعلها المكون المهيمن فيه. ومن المهم الإشارة إلى أنه على الرغم من تشابه التسمية بين “الطاقة المظلمة” و”المادة المظلمة”، إلا أنه لا يوجد بالضرورة أي ارتباط أو علاقة مباشرة بينهما.

فكلا المصطلحين يصفان ظواهر كونية لا تزال غير مفهومة بشكل كامل من قبل العلماء، ولذلك تم استخدام صفة “مظلم” للدلالة على هذا الجهل بطبيعتها. ببساطة، ليس اشتراكهما في كلمة “مظلم” دليلًا على وجود رابط فيزيائي بينهما، بل يعكسان ببساطة مدى محدودية فهمنا لهاتين الظاهرتين الكونيتين حتى الآن.

التمدد الكوني

يُظهر الكون ظاهرةً رائعةً تُعرف بالتمدد الكوني، حيث تتباعد المجرات المحيطة بمجرتنا، درب التبانة، بشكلٍ مستمرٍ ومنتظمٍ، ويتبع هذا التباعد نمطًا مُحددًا: فكلما ازدادت المسافة بين المجرة وبيننا، ازدادت سرعة ابتعادها، وهذا لا يُشير بأي حالٍ من الأحوال إلى أن هذه المجرات تندفع أو تتحرك خارج حدود الفضاء أو إلى منطقةٍ خارجه، بل على العكس تمامًا، فهي لا تزال موجودةً ومُتمركزةً داخل نسيج الفضاء نفسه.

والسبب في هذا الابتعاد هو أن الفضاء ذاته في حالة حركةٍ ديناميكيةٍ وتمددٍ مُستمرٍ، ممّا يعني أن الكون لا يمتلك مركزًا مُحددًا وثابتًا يمكن الإشارة إليه كنقطة ارتكازٍ أو بدايةٍ، وذلك لأن الكون بأكمله في حالة حركةٍ دائمةٍ وتوسعٍ مُستمرٍ، حيث يبتعد كل شيءٍ عن الآخر في هذا الكون الفسيح، ويُعزى تسارع هذا التمدد الكوني، أي الزيادة المُستمرة في سرعة تباعد المجرات، إلى وجود شكلٍ غامضٍ من الطاقة يُعرف باسم الطاقة المظلمة، والتي تلعب دورًا حاسمًا في دفع هذا التوسع الكوني وزيادة وتيرته.

يعود الفضل في اكتشاف مفهوم توسع الكون، وفهم العلاقة التي تربط بُعد المجرات عن الأرض بسرعة ابتعادها عنا، إلى العالم الفلكي الأمريكي البارز إدوين هابل. ففي عام 1929، توصل هابل من خلال دراساته وأبحاثه الفلكية الدقيقة إلى ملاحظة هامة مفادها أن المجرات تبتعد عن مجرتنا، درب التبانة، بسرعات تتناسب طرديًا مع بعدها عنا؛ أي كلما كانت المجرة أبعد، كانت سرعة ابتعادها أكبر.

هذا الاكتشاف شكل نقطة تحول في علم الكونيات، حيث وضع الأساس لفهمنا الحالي لديناميكية الكون وتطوره، وأدى لاحقًا إلى ظهور مفهوم الطاقة المظلمة كقوة افتراضية مسؤولة عن تسارع هذا التوسع.

تُعتبر الطاقة المظلمة من الخصائص الأساسية للفضاء نفسه، حيث لا تتناقص كثافتها مع توسع الكون، بل على العكس تمامًا، فوفقًا لنظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، كلما ازداد حجم الفضاء الناتج عن التمدد الكوني، ازدادت كمية الطاقة المظلمة الموجودة فيه، ممّا يعني أن كثافتها تبقى ثابتة تقريبًا مع مرور الوقت.

وعلى الرغم من الجهود المضنية التي بذلها العلماء، إلا أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من قياس كمية هذه الطاقة بشكل دقيق ومباشر، لكنهم استطاعوا تحديد بعض خصائصها الهامة، فهي تُصنف على أنها شكل من أشكال الطاقة الديناميكية، أي أنها ليست ثابتة أو ساكنة، بل هي كيانٌ يمْلأ الفراغ الكوني بأكمله، ولكن تأثيرها الفيزيائي يُعاكس تمامًا تأثير المادة والطاقة العادية التي نعرفها.

حيث تعمل الطاقة المظلمة كقوة دافعة تُعارض قوة الجاذبية التي تجمع الأجسام، وهذا التأثير المُعاكس هو ما يُفسر التسارع المُطرد في معدل تمدد الكون، فكلما زاد تأثير الطاقة المظلمة المُعاكس للجاذبية، زادت سرعة هذا التمدد، وفي الوقت نفسه، يُؤدي هذا التأثير إلى إبطاء معدل تكوين الأجسام الكبيرة في الكون، مثل المجرات والتجمعات المجرية، لأنها تُعيق تجمع المادة بفعل الجاذبية.

ومن بين التقنيات الهامة التي استخدمها العلماء لدراسة وقياس تأثيرات الطاقة المظلمة، تقنية تعتمد على رصد سطوع الأجسام الفضائية التي تتميز بلمعان معروف وثابت نسبيًا، مثل المستعرات الأعظمية (السوبرنوفا)، وهي انفجارات نجمية هائلة تُطلق كميات هائلة من الضوء، وقد تم اكتشاف وجود الطاقة المظلمة بهذه الطريقة في عام 1998 من خلال عمل فريقين دوليين من الباحثين، كان من بينهم عالم الفضاء الأمريكي البارز آدم ريس، الذي ساهمت أبحاثه بشكل كبير في فهمنا لهذه الظاهرة الكونية الغامضة.

لقد استدلّ العلماء على وجود ما يُعرف بـ “الطاقة المظلمة” من خلال دراسة مُتمعّنة لمعدل تمدد الكون عبر مراحله المختلفة. فمنذ اللحظات الأولى التي تلت الانفجار العظيم، وهو الحدث الكوني الذي يُعتقد بأنه أوجد الكون، لوحظ أن الكون كان يتمدد بوتيرة أبطأ نسبيًا خلال النصف الأول من عمره. ولكن، بعد مرور حوالي سبعة مليارات سنة، طرأ تغيّر ملحوظ على هذه الوتيرة، حيث تسارعت سرعة تمدد الكون بشكل لافت.

هذا التسارع المُفاجئ في التمدد دفع العلماء إلى افتراض وجود شكل من أشكال الطاقة يعمل على دفع هذا التوسع المتزايد. هذا الافتراض يتوافق مع ما ذكره العالم ألبرت أينشتاين حول وجود طاقة تتناسب طرديًا مع حجم الفضاء الفارغ، أي كلما زاد حجم الفضاء، زادت كمية هذه الطاقة.

بناءً على هذه الملاحظة، استنتج العلماء أن هذه الطاقة الغامضة، والتي أُطلق عليها اسم “الطاقة المظلمة”، تُشكّل قوة خامسة أساسية في الكون، بالإضافة إلى القوى الأربعة المعروفة (القوة النووية القوية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة الكهرومغناطيسية، وقوة الجاذبية). هذا الاستنتاج مبني على قدرة الطاقة المظلمة الهائلة على حمل هذا الفضاء الفسيح الشاسع بتنظيم وثبات، دون أن يشهد هذا الانتشار أي شكل من أشكال العشوائية أو الفوضى.

بالتالي، يُمكن القول إن الاستدلال على وجود الطاقة المظلمة تمّ من خلال تحليل دقيق لتأثيرها المباشر على معدل التمدد الكوني، بالإضافة إلى تأثيرها على حركة الهياكل الفضائية الضخمة، كالمجرات وتجمعاتها، وكيفية تكوين هذه الهياكل أثناء فترات عدم استقرار الجاذبية، مما يُشير إلى وجود قوة خفية تُساهم في ديناميكية الكون وتطوره.

لقد انكبّ العلماء على محاولة تحديد معدل تمدد الكون بدقة، ساعين إلى قياس الإزاحات الفضائية التي تُعزى إلى تأثير الطاقة المظلمة، تلك القوة الغامضة التي يُعتقد أنها تُسرّع من توسع الكون. ورغم الجهود المضنية التي بُذلت في هذا الصدد، واجهت هذه المحاولات تحديات جمة، حيث شابها قدرٌ كبير من عدم اليقين وأسفرت عن نتائج اتسمت بعدم الدقة الكمية، أي أنها قدمت ملاحظات واستنتاجات قيّمة لكنها افتقرت إلى أرقام محددة وقاطعة تُثبت صحتها.

ومع ذلك، فقد اتفقت فرق البحث العلمي التي خاضت غمار هذه التجارب والدراسات على استنتاجٍ حاسمٍ وواضح، ألا وهو أن الكون يشهد تمددًا مستمرًا ومتزايدًا، ما يؤكد صحة النظريات التي تتحدث عن ديناميكية الكون وتطوره الدائم.

إضافةً إلى ذلك، أدرك العلماء أن فهم طبيعة الطاقة المظلمة وقياسها بدقة يتطلب إيجاد حلول مبتكرة للتغلب على تأثير الجاذبية، تلك القوة الأساسية التي تُعتبر من أهم العوامل المؤثرة في حركة الأجرام السماوية وتوزيعها في الكون. فالجاذبية تُشكّل تحديًا كبيرًا أمام قياس تأثير الطاقة المظلمة، إذ تُعيق ملاحظة الإزاحات الفضائية الدقيقة الناتجة عنها.

تُعدّ كل من الطاقة المظلمة والمادة المظلمة من أكثر الظواهر الكونية غموضًا وإثارةً للتساؤلات في علم الكون الحديث، حيث استحوذت كلتاهما على اهتمام العلماء وشغلتهم لأمدٍ طويل. فكما أن الطاقة المظلمة، بتأثيرها الفريد وقوتها الخفية، تُعتبر القوة المحركة والمسؤولة بشكل أساسي عن التوسع المتسارع للكون الذي نشهده اليوم، فإن المادة المظلمة تحتل مكانةً لا تقل أهمية في فهمنا لبنية الكون وكيفية تماسك مكوناته.

ففي حين تُفسر الطاقة المظلمة الديناميكية الكونية على أبعادها الشاسعة، تأتي المادة المظلمة لتشرح لنا الآلية التي تعمل بها التجمعات الكونية، من مجرات وعناقيد مجرية، كوحدة واحدة متماسكة، حيث يُعتقد أنها تُشكل الهيكل الخفي الذي يحافظ على ترابط هذه المكونات الهائلة ويمنعها من التفكك، مما يجعلها عنصرًا أساسيًا في فهمنا لتكوين وبنية الكون على نطاق واسع.

Related Posts

اترك رد