تُعرّف العلمانية بأنها حركة اجتماعية وفلسفية شاملة، تُشكّل اتجاهًا متميزًا في الحياة، يقوم على مبدأ جوهري هو استبعاد الاعتبارات والمحددات الدينية من مجال الحكم والسياسة وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، انطلاقًا من اعتبار أن السياسة مجال دنيوي بحت، لا يخضع للمعايير الدينية المباشرة.
وتسعى العلمانية إلى تحقيق ذلك من خلال تنمية النزعة الإنسانية، التي تُعلي من قيمة الإنسان وقدراته وإنجازاته، والاهتمام بالإبداعات الثقافية والفكرية والبشرية المتنوعة، باعتبارها تعبيرًا عن التقدم الإنساني.
كما تُعد العلمانية نظامًا اجتماعيًا وأخلاقيًا يسعى لتأسيس منظومة قيم سلوكية وأخلاقية مستمدة من اعتبارات الحياة المعاصرة والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع التركيز على مبادئ التضامن الاجتماعي والتعاون بين أفراد المجتمع، دون الرجوع إلى المرجعيات الدينية أو الاعتبارات الغيبية في تحديد هذه القيم والمعايير.
بمعنى آخر، تُركز العلمانية على بناء مجتمع مدني حديث، يتم فيه الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وتكون فيه السيادة للقانون الوضعي الذي يُضعه الإنسان، بدلًا من الشريعة الدينية.
نشأة العلمانية
انبثقت العلمانية كحركة فكرية واجتماعية وسياسية بارزة خلال حقبة التنوير والنهضة الأوروبية، كرد فعل مباشر على النفوذ الطاغي للكنيسة وسيطرتها الشاملة على مختلف جوانب المجتمع ومؤسساته، حيث سعت العلمانية إلى تقويض هيمنة المؤسسة الدينية ومعارضة تدخلها في الشؤون العامة، كما ناهضت العلمانية بشدة فكرة تنظيم المجتمع على أسس دينية أو طائفية، مؤكدة على ضرورة فصل الدين عن الدولة.
وحصر دور الدين في تنظيم العلاقة الروحية بين الفرد وخالقه، بينما يجب أن يقوم التنظيم الاجتماعي للدولة على مبادئ إنسانية بحتة، بعيدًا عن أي اعتبارات دينية أو طائفية، ما يضمن المساواة والعدالة لجميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
انتشار العلمانية
شهدت العلمانية، منذ نشأتها في الغرب، انتشارًا واسعًا وسريعًا عبر أنحاء العالم، ويعود ذلك بشكل خاص إلى تأثير تجربتي الولايات المتحدة وفرنسا الثوريتين، اللتين تُعتبران بحق أول دولتين في التاريخ الحديث تُؤسسان على مبادئ علمانية صريحة وواضحة، ما جعلهما نموذجًا يحتذى به في هذا السياق.
هذا الانتشار الواسع للعلمانية يُعزى أيضًا إلى جاذبيتها العالمية القوية وقدرتها على تقديم حلول عملية وواقعية للتحديات التي تواجه المجتمعات المتنوعة والمتعددة الأديان والمعتقدات.
فالعلمانية، بما تتبناه من فصل للدين عن الدولة، تُقدم آلية فعّالة لمنع الحكومات والسلطات السياسية من ممارسة أي شكل من أشكال التمييز أو التحيز ضد أي دين أو معتقد مُتبع في المجتمع، ما يُساهم في تعزيز مبادئ المساواة والعدالة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، ويُرسخ أسس المواطنة المتساوية للجميع، ويحمي حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية المختلفة في إطار من التسامح والتعايش السلمي.
هذه المزايا جعلت من العلمانية خيارًا جذابًا للعديد من الدول والمجتمعات التي تسعى إلى بناء نظام سياسي واجتماعي حديث يقوم على أسس ديمقراطية وعادلة، ويضمن حقوق جميع المواطنين دون تمييز.
أنواع العلمانية
تتعدد مذاهب العلمانية كأي منهج فكريّ وتتنوع لتشمل بمفهومها جميع مقوّمات الدولة التي تتبناها كمنهجٍ للتعامل، وأنواع العلمانية هي كما يأتي:
- العلمانية السياسية: العلمانية السياسية (بالإنجليزية: Political Secularism) هي الأيدولوجيات والسياسات التي تسعى إلى إبقاء الأفراد بعيدًا عن الهيمنة أو الخيارات والتفضيل الديني، وإبقاء الدولة خارج الشؤون الدينية للأفراد.
- العلمانية الفلسفية: العلمانية الفلسفية (بالإنجليزية: Philosophical Secularism) هي السعي إلى استيعاب الأفكار والآراء والأبحاث التي تصدر من الأفراد في نقد الأديان، وتحدي السلطة الدينية، واحترام حرية تعبيرهم.
- العلمانية الاجتماعية: الثقافية العلمانية الاجتماعية الثقافية (بالإنجليزية: Socio-Cultural Secularism) هي الوصول بالأفراد إلى تقليص اهتمامهم بالشؤون الدينية خلال حياتهم اليومية، وعدم اعتباره عنصرًا مهمًّا لهويتهم، والانشغال بحياتهم الدنيا.
مراحل العلمانية
- العلمانية السطحية تُسمى أيضًا العلمانية النضالية أو الصراعية، وهي تنطلق من منطلقات عقلانية سطحية قديمة، تُنادي بضرورة سيادة العقل البشري القائم على الفحص، والتجريب، والقياس الرياضي الدقيق، وتُشكل هذه المرحلة أساس الحضارة الغربية، ويُعتبر العقل هنا عقلًا ضيقًا، ومتصلبًا، وتُعتبر مرحلة انتقالية أوصلتنا إلى العصر الأمريكي والتكنولوجي والاستهلاكي الحالي.
- العلمانية الجديدة تُسمى أيضًا بالعلمانية المنفتحة، جاءت بعد فشل العلمانية السطحية، إذ تبيّن من فشلها أنّه لا بد من أن يكون هناك تقارب بين المؤسسات الدينية والدولة، وتعاون للعثور على صيغة جديدة بهدف الوصول إلى علمنة جديدة تُتيح إمكانية وجود روحانية جديدة.
مبادئ العلمانية
للعلمانية مبادئ رئيسية تقوم عليها، وتكوّن هذه المبادئ جوهر العلمانية وهي كما يأتي:
- اعتماد المبحث المادي البحت في تفسير العالم بقوانينه وحياة البشر.
- “اعتماد العلوم التجريبية والمنهج التجريبي القائم على الشّك في كلّ شيء، وعدم اعتماده إلا بعد إجراء التجارب والخلوص إلى النتائج ولا يقتصر المنهج العلمي على العلوم التجريبية بل يشمل علم الاجتماع والسياسة والنفس.. إلخ، وبالتالي يعتبر المنهج الوحيد المقبول باعتباره يتخذ التجارب والإحصاء والعقلانية والمنطق وسيلة للوصول إلى الحقيقة”
- رفض الإيمان بالغيبيات والميتافيزيقيات.
- فصل الدين عن الدولة باعتبار أن المعاملات الاجتماعية والسياسية والدنيوية خارج نطاق الدين، وأن العلاقات الدينية تقتصر بين الإنسان وربه.
مستويات العلمانية
هناك علاق معقدة بين مستويات العلمنة وتأثير الجهات الفاعلة المختلفة في النزاعات العديدة حول أدوار الدين في الحياة؛ حيث تمر العلمانية بـ3 مستويات من العلمنة على النحو الآتي:
- العلمنة المجتمعية: العلمنة المجتمعية هي نتيجة نموذجية لعمليات الحداثة وبرامج العلمنة التي تُروّج لها الأحزاب السياسية.
- العلمنة الفردية: تتجلّى العلمنة الفردية في تراجع الالتزام الديني للأفراد؛ وتحدث عندما يُعيد الأفراد تكوين معتقداتهم وممارساتهم الشخصية بعيدًا عن الدين، كما تتجلي بتجزئة نظام معنى الفرد، وانفصال الدين عن مجالات الحياة الأخرى.
- العلمنة التنظيمية: يُغطي مستوى العلمنة التنظيمية مدى تكيّف الهيئات الدينية مع المجتمع العلماني.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.