الصلاة عمود الدين، والوضوء مفتاحها. فكما لا تصح الصلاة إلا بعد الطهارة، فإن الطهارة لا تكتمل إلا بالوضوء. ولذلك فإن معرفة فرائض الوضوء وأحكامه الشرعية أمرٌ واجب على كل مسلم ومسلمة.
الطهارة، ركن أساسي من أركان الإسلام، هي تلك الحالة التي يتحقق بها النقاء والصفاء الروحي والجسدي للمسلم، والتي تُعدُّ شرطًا أساسياً لقبول العبادات، وفي مقدمتها الصلاة. فالوضوء، وهو أحد أهم أركان الطهارة، هو غسل مخصوص لأعضاء معينة من الجسم بنية التقرب إلى الله تعالى، وبه يتطهّر المسلم من الحدث الأصغر ليستطيع أداء الصلاة وقراءة القرآن الكريم لقولِهِ تعالى: “لا يمسُّهُ إلّا المطهرون”.
إن الوضوء ليس مجرد طقس نظافي، بل هو عبادة عظيمة تتضمن نية خالصة لله تعالى، وتذكير المؤمن بعظمة الخالق وجلاله. وسنتناول في هذا المقال فرائض الوضوء وأركانه، وما يفسده، كما سنتطرق إلى التيمم الذي هو بديل للوضوء في حالات معينة.
فرائض الوضوء
الفرض في اللغة يعني القطعة الواجب إتمامها، وفي الاصطلاح الشرعي يشير إلى العمل الذي أمر الله به، ووجب على المسلم القيام به، وعوقب على تركه. وبمعنى آخر، هو الركن الأساسي الذي لا تصح العبادة بدونه. أما الشرط، فهو ما يتوقف عليه صحة العبادة، ولكنه ليس جزءًا منها بذاتها.
وقد اختلف الفقهاء في تحديد عدد فرائض الوضوء، ولكن ما ثبت بالتأكيد من خلال القرآن الكريم هو أربعة فروض أساسية: غسل الوجه كاملاً، وغسل اليدين من الأصابع إلى المرفقين، ومسح الرأس بأكمله، وغسل الرجلين من الأصابع إلى الكعبين. وهذه الفروض ورد ذكرها صريحًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}. والخلاف الفقهي في الوضوء ينحصر في بعض التفاصيل، مثل مسح الرأس، هل يشمل الرأس بأكمله أم جزءًا منه؟
فرائض الوضوء المتفق عليها
أكد القرآن الكريم على أربعة أركان أساسية للوضوء لا خلاف عليها بين الفقهاء، وهي: غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين.
- غسل الوجه: وجاء في كتاب الله تعالى: “فاغسلوا وجوهكم”، وهذا دليل قطعي على أن غسل الوجه يعدُّ من فرائض الوضوء. يشمل غسل الوجه الوجه كله ظاهره وباطنه مرة واحدة على الأقل، مع مراعاة إسالة الماء على جميع أجزائه حتى يتجلى أثره، وتكرار الغسل أكثر من مرة مستحب، ولا يصح الوضوء إلا بغسل الوجه بالماء الطاهر المتقاطر، بحيث تصل قطرات الماء إلى جميع أنحاء الوجه، ولا يكفي مجرد مسح الوجه بالماء. وحدد الشرع حدود الوجه بوضوح؛ فطوله يمتد من منبت الشعر الأمامي إلى أسفل الذقن، وعرضه يمتد من شحمة الأذن اليمنى إلى شحمة الأذن اليسرى.
- غسل اليدين إلى المرفقين: وجاء الدليل على وجوب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع العلماء. فقد أمر الله تعالى في كتابه الكريم بقوله: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ). وهذا دليل صريح على وجوب غسل اليدين إلى المرفقين. كما ثبت في السنة النبوية الشريفة لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: (رَأَيْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَتَوَضَّأُ فَغَسَلَ وجْهَهُ فأسْبَغَ الوُضُوءَ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ اليُمْنَى حتَّى أشْرَعَ في العَضُدِ، ثُمَّ يَدَهُ اليُسْرَى حتَّى أشْرَعَ في العَضُدِ). وقد اتفق العلماء على أن المرفقين داخلان في غسل اليدين، ولا يصح الوضوء إلا بغسلهما، وذلك لعموم لفظ “إلى المرفقين” في الآية الكريمة، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الفعل والقول.
- مسح الرأس: اتفق الفقهاء على أن مسح الرأس يعدُّ ركنًا من أركان الوضوء، وذلك بناءً على قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ). إلا أنهم اختلفوا في تحديد مقدار المسح الذي يجزئ. فذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل وابن تيمية إلى وجوب مسح كامل الرأس سواء كان للرجل أو المرأة، مستندين إلى أن معنى الباء في الآية الكريمة يدل على الإلصاق التام. في حين ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى جواز الاكتفاء بمسح جزء من الرأس، وتفاوتوا في تحديد هذا الجزء، فمنهم من قال بثلاث شعرات، ومنهم من قال بربع الرأس أو نصفه، مستندين إلى أن معنى الباء هنا يدل على التبعيض لا الإلصاق التام. وقد ورد عن الإمام أحمد رأي آخر يرى أن مسح الرأس كاملًا واجب بالنسبة للرجل، بينما يكفي المرأة مسح جزء منه، وذلك تيسيرًا عليها.
- غسل الرجلين إلى الكعبين: اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بغسل رجله اليمنى ثم اليسرى، كما فعل عند غسل يديه. وقد روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمُّن”. ودليل وجوب غسل الرجلين إلى الكعبين هو قوله تعالى: “وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ”. وبناءً على هذه الآية الكريمة، يجوز للمتوضئ أن يبدأ بغسل رجله اليمنى أو اليسرى، ولكن السنة أن يبدأ باليمنى. وأما الكعب، فقد اختلف العلماء في تحديده، فذهب الحنفية إلى أن الكعب هو العظمة البارزة في ظهر القدم عند شراك النعل، بينما ذهب جمهور العلماء إلى أن لكل قدم كعبان هما العظمتان البارزتان على جانبي القدم عند التقاء الساق بالقدم، ويجب غسل كل قدم حتى يصل الماء إلى هذين الكعبين.
فرائض الوضوء المختلف فيها
- النية: في الوضوء هي العزم القلبي على أداء هذا الطهور المقرب إلى الله عز وجل، وهي عبارة عن قصد إزالة النجاسة وإباحة ما حرمه الحدث الأصغر. يكفي لتحقيق النية أن يقصد العبد في قلبه أداء الوضوء، ولا يشترط أن ينطق بها لسانًا، بل هي مقصورة على القلب وحده. ومع ذلك، يشترط أن تكون هذه النية صادرة في بداية الوضوء، أي قبل الشروع في غسل الأعضاء، فلو بدأ العبد في غسل وجهه مثلاً ثم تذكر النية بعد ذلك، فلا يصح وضوؤه. والنية شرط أساسي لصحة الوضوء، فهي التي تميز بين مجرد غسل الأعضاء والوضوء الذي هو عبادة مقصودة تقربًا إلى الله تعالى.
- الموالاة: الموالاة في الوضوء، لغةً، تعني المتابعة والاتصال ببعض. وفي الاصطلاح الشرعي، تشير إلى إتمام أركان الوضوء بشكل متصل ومتتابع دون توقف طويل بين ركن وآخر، بحيث لا يجف العضو الذي تم غسله قبل الانتقال إلى العضو التالي. وقد اختلف الفقهاء في حكم الموالاة، فذهب الحنفية والشافعية في رواية مشهورة والحنابلة في رواية إلى أنها سنة، أي عمل مستحب وليس واجباً، بينما ذهب المالكية والشافعية في رواية قديمة والحنابلة في المذهب إلى وجوب الموالاة، أي أنها شرط لصحة الوضوء. ويرى بعض العلماء أن المراد بالموالاة عدم الانشغال بأمر آخر أثناء الوضوء، كالكلام أو النظر إلى شيء يلهي عن الوضوء، وذلك حتى يتمكن المصلي من التركيز على عبادة الوضوء.
- التدليك: التدليك في الوضوء هو مسح العضو المغسول بباطن اليد بعد صب الماء عليه وقبل أن يجف، وذلك لضمان وصول الماء إلى جميع أجزاء العضو وتطهيره. يشترط في التدليك أن يكون بباطن الكف، ولا يصح أن يكون بظهر الكف أو بأي عضو آخر من الجسم. وقد اختلف العلماء في حكم التدليك، فذهب جمهور العلماء إلى أن التدليك سنة مؤكدة وليست واجبة، مستندين إلى عدم ورود نص صريح في القرآن والسنة بوجوبه. ويرون أن إفاضة الماء على العضو وتأكد وصوله إلى جميع أجزائه يكفي في تحقق الطهارة. أما المالكية، فيرون أن التدليك واجب في الوضوء، ويشترط أن يكون بباطن الكف وبطريقة متوسطة، ولا يجوز الشد في التدليك تجنباً للوسوسة. ويذهب المالكية إلى أن وجوب التدليك ثابت حتى لو وصل الماء إلى جميع أجزاء العضو، وذلك احتياطاً وتأكيداً للطهارة.
منقضات الوضوء
بعد أن تعرفنا على أركان الوضوء وطريقة أدائه الصحيحة، لا بد لنا من الانتقال إلى معرفة ما يفسده. فمنقضات الوضوء هي تلك الأفعال والأشياء التي تؤدي إلى انتقاض الوضوء، مما يستوجب على المسلم إعادة الوضوء فور حدوثها. ومنقضات الوضوء متعددة وكثيرة وهي:
- خروج شيء من السبيلين: مهما كانَ الخارج صغيرًا أو كبيرًا فإنه يفسد الوضوء، لقولِهِ -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث: “إذا كانَ أحدُكم في الصَّلاةِ فوجدَ حرَكةً في دبرِه أحدثَ أو لم يحدثْ فأشكلَ عليهِ فلا ينصرفْ حتَّى يسمعَ صوتًا أو يجدَ ريحًا”.
- مسُّ القُبُلِ أو الدُّبُر: والدليل على هذا حديث رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حين قال: “من مسَّ فرجه فليتوضأ” .
- لمسُ المرأة للرجل أو العكس بشهوة: والدليل على هذا قولُهُ تعالى: “أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا” ، والقول الراجح في هذه الآية أنَّ المقصود بالملامسة هو الجماع، وهذا القول ينفي صحة نقض الوضوء عند لمس المرأة.
- خروج الدم أو القيء أو القيح الشديد: وهذا فيه اختلاف، فقد أخذ الأحناف والحنابلة بحديث عن النَّبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال فيه: “من أصابه قيءٌ أو رُعافٌ أو قلَسٌ أو مذِيٌّ فلينصرِفْ فليتوضَّأْ، ثمَّ ليبْنِ على صلاتِه، وهو في ذلك لا يتكلَّمُ” ، ولأنَّ الحديث ضعيف في خلاصة حكمه، أخذ بقية العلماء بأن الدم والقيء والقيح لا ينقضون الوضوء وهذا الرأي الراجح.
- ذهاب العقل بالجنون أو بالسكر أو بالنوم: والدليل على هذا قولُهُ -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث: “العينُ وِكَاءُ السَّهِ فمن نام فليتوضأْ” ، وفي هذا الحكم تخفيف لمن سها فنام نومًا يسيرًا وهو قائم أو جالس لحديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قال: “كان أصحابُ رسولِ اللهِ -صلّى الله عليه وسلَّم- ينامون، ثم يَصُلون ولا يَتوضَّؤون”.
- أكل لحم الإبل: لِحديث الرسول عن جابر بن سمرة: “أنَّ رجلًا سأَل النَّبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال: يا رسولَ اللهِ أنتوضَّأُ مِن لحومِ الغَنمِ؟ قال: إنْ شِئْتَ فتوضَّأْ وإنْ شِئْتَ فلا تتوضَّأْ، قال: أنتوضَّأُ مِن لحومِ الإبلِ؟ قال: نَعم توضَّأْ مِن لحومِ الإبلِ، قال: أنصلِّي في مرابضِ الغَنمِ؟ قال: نَعم، قال: أنُصلِّي في مبارِكِ الإبلِ؟ قال: لا”.
- غسيل الميت: والدليل على هذا أنَّ ابن عمر وابن عباس -رضي الله عنهما- كانا يأمران غاسل الميت أن يتوضَّأ، وفي ذلك قولٌ لأبي هريرة -رضي الله عنه- حيث قال: “أقلُّ ما فيه الوضوء” ويعني غسيل الميت.
التيمم وأحكامه
بعد ما وردَ من حديث عن فرائض الوضوء المختلف عليها وفرائض الوضوء المتفق عليها والحديث عن منقضات الوضوء في الإسلام أيضًا، لا بدّ من الحديث عن التيمم وأحكامه في الإسلام، ويمكن تعريف التيمم على أنّه: هو الطهارة بالتراب وليس بالماء، وينوب التيمم عن الوضوء في حالات انعدام الماء، وينوب أيضًا عن الغسل من الجنابة عند فقدان الماء، ووردَ في تعريف التيمم في كتاب منهج السالكين: “بأن: ينويَ رفعَ ما عليه من الأحداث، ثُمَّ يضرب التُّرابَ بيده مرَّةً واحدةً، يمسحُ بهما جميعَ وجههِ وجميع كفَّيه، فإن ضرب مرَّتين فلا بأس”، وقال تعالى في كتابِهِ الحكيم: “فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”.
أمّا فيما يتعلق بصفات التيمم في الإسلام فهي: النيّة والتسمية أولّا، ثمَّ أن يضربَ المتيممُ بيديه على الأرض ضربة واحدً فقط، ثم ينفخ عليهما لينفخ ما علق بهما من الأرض، ثم يمسح وجهه بكلتَي يديه، ويمسح يده اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى، وجدير بالذكر أنَّ مبطلات التيمم هي ذاتها مبطلات الوضوء، ويبطل التيمم بوجود الماء، أو بزوال عذر التيمم، فمن تيمم لمرض وزال مرضه بَطُلَ تيممهُ، والله أعلم.