تعتبر مسألة نفخ الروح في الجنين من أهم القضايا التي شغلت العلماء والفلاسفة على مر العصور، ولا تزال محل اهتمام كبير حتى يومنا هذا. فمنذ اللحظة الأولى لتكوين الجنين، يبدأ سؤال وجود الروح في هذا الكائن الصغير بالتشكل، ويثير تساؤلات حول حقوقه وحرمته.
خلق الله سبحانه و تعالى الإنسان و بثّ فيه من رّوحه ، فجعله في أحسن صورةٍ و تقويمٍ ، و فضّله على كثيرٍ من خلقه و كرّمه تكريما ، فالرّوح سرّ الله في خلقه لا يعلمها إلّا هو سبحانه ، فعندما جاء اليهود يسألون رسول الله أسئلةً كان من ضمنها سؤالهم عن الرّوح فنزل الوحي بأنّ الرّوح من أمر الله و ما أوتي الإنسان من العلم إلا قليلاً .
متى تُنفخ الروح في الجنين
الرّوح هيَ من أمر الله -تعالى- ولا يَعلَم طبيعتها وكيفيّة اتّصالها بالجسد أحدٌ سواه، حيث قال الله -تعالى-: (وَيَسأَلونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِن أَمرِ رَبّي وَما أوتيتُم مِنَ العِلمِ إِلّا قَليلًا)، وتجدر الإشارة إلى توضيح عدّة أمور متعلّقة بما سبق:
- أوّلاً: ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى القول بأنّ نفح الرّوح في الجنين يكون بعد أربعين يوماً، وقد استدلّوا على ذلك بأمرين:
- أوّلهما: عدم وجود دليل شرعيّ واحد من القرآن الكريم أو السنّة النبويّة الصّحيحة يُفيد ويُصرِّح بأنّ نفخ الرّوح في الجنين لا يكون إلّا بعد أربعة أشهر.
- ثانيهما: أنّ لفظ (مِثْلَ ذلكَ) الوارد في قول رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذلكَ، ثُمَّ يَكونُ في ذلكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذلكَ) لا يُراد به المثليّة في الزّمن والوقت، وإنّما أمرٌ آخر.
- ثانياً: الجنين قبل نفخ الرّوح فيه لا يُعدّ آدمياً، وإنّما أحد مخلوقات الله -تعالى- التي تتطوّر وتتهيّأ لنفخ الرّوح فيها فتصير بها آدمياً، وذلك سواءً كان نفخ الرّوح بعد أربعين يوماً أو بعد أربعة أشهر.
- ثالثاً: الأحكام المتعلّقة بالجنين كالاستلحاق عند التّنازع، ووجوب النّفقة على حمل المطلّقة، لا تكون إلّا بعد نفخ الرّوح فيه.
- رابعاً: ظهور خلق الجنين قبل مُضيّ أربعة أشهر على مكثه في رحم أمّه، لا ينفي القول بأنّ نفخ الرّوح فيه لا يكون إلّا بعد أربعة أشهر؛ وذلك لأنّ نفخ الرّوح لا يكون إلّا بعد الخلق.
- خامساً: ذهب الصحابيّ عبد الله بن عباس -رضيَ الله عنه- والإمام أحمد -رحمه الله- إلى القول بأنّ نفخ الرّوح في الجنين لا يكون إلّا بعد أربعة أشهر وعشرة أيام.
حقوق الجنين في الشريعة الإسلامية
أثبتت الشّريعة الإسلاميّة للجنين العديد من الحقوق، وهي تنقسم إلى قسمين بيانهما كما يأتي:
حقوق الجنين قبل تخلّقه
هناك العديد من الحقوق التي منحها الإسلام للجنين قبل تخلّقه، ومنها ما يأتي:
- التّخيّر للنّطفة
فمن حقّ الجنين أن يكون له أب وأمّ صالحَين قادرَين على رعايته وعلى الاهتمام بشؤونه وتربيته تربية صالحة سويّة.
- حماية الجنين من عبث الشّيطان
فمن حقّ الجنين على أبَويه حمايته من عبث الشّيطان ونزغاته حال وجوده في الرّحم، وذلك باتّخاذ التّدابير اللّازمة التي حثّ الإسلام والرسول عليها لتحقيق ذلك.
حقوق الجنين بعد تخلّقه
اتّفق العلماء على ثبوت العديد من الحقوق للجنين بعد تخلّقه، نذكر بعضها ما يأتي:
- حق الجنين في الحياة
يعدّ حقّ الجنين في الحياة أوّل الحقوق وأهمّها، حيث إنّ بقيّة الحقوق تعتمد عليه ويتوقّف نفاذها على وجوده، وحفظ هذا الحقّ للجنين يقع على عاتق أبَويه، فلا يُسمَح لأحدهما أو كلاهما الجناية على الجنين وإسقاطه، ولا يُسمَح للأمّ بتناول ما يلحق الضّرر والأذى به؛ كتناول المخدرات والمسكّرات، كما يجب المبادرة والإسراع في معالجة نفسها حال المرض، وتجنّب التّعب والإرهاق النّفسي، وكلّ ما كان من شأنه أن يلحق به نوعاً من أنواع الأذى، وتجدر الإشارة إلى ذكر أمرين:
- أوّلهما: إنَّ الله -تعالى- أباح للمرأة الحامل الإفطار في شهر رمضان في حال خوفها وخشيتها على الجنين مع لزوم الفدية والقضاء.
- ثانيهما: لا تكون الشّفقة والرّحمة على الجنين المشوّه بعد تخلّقه بإنهاء حياته وإسقاطه، بل بمزيدٍ من الحب والعطف والرّعاية من والديه وأهله، لأنّ الإسلام لا يُفرّق بين قتل الرّحمة وغيره، حيث قال الله -تعالى-: (وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلّا بِالحَقِّ).
- حقّ الجنين في عافية الجسد والبدن
فقد أوجب الإسلام على الأمّ الحامل العناية والاهتمام بكلّ ما يحفظ للجنين صحّته وعافيته معنوياً؛ بحيث لا يكون غذاءها إلّا حلالاً، ومادياً؛ كتناول الأغذية الصحيّة والمتكاملة غذائياً، ومنعها من فعل كلّ ما قد يَنجم عنه إجهاض الجنين وإسقاطه دون عذر طبّي.
- حق الجنين في النسب من أبيه
حيث يثبت نسب الجنين من أبيه في حال توافرت شروط النسب.
- حقّ الجنين في الإرث
حيث يثبت للجنين حقه في الإرث إذا وُجد سبب استحقاقه وكان مستوفياً لشروطه.
- حقّ الجنين في الوصيّة له
حيث يثبت للجنين حقّه في صحة الوصيّة له.
- حقّ الجنين في الوقف
أجاز الحنفيّة والمالكيّة الوقف على الجنين لكونه كالوصيّة، أمّا الشافعيّة فقالوا بعدم جواز ذلك، لأنّ الوقف تسليط في الحال على خلاف الوصيّة، أمّا الحنابلة فقالوا بعدم جواز الوقف على الجنين أصالة لأنّه تمليك، وهو ما لا يجوز له إلّا بإرث أو وصيّة، أمّا إن كان الوقف على مَن يصحّ الوقف عليه كالأولاد وكان الجنين من ضمنهم جاز ذلك.