تُعتبر ناطحات السحاب من أبرز المعالم المعمارية في عالمنا، حيث تستحضر إلى الأذهان صورًا لأبنية شاهقة مثل مبنى إمباير ستيت وبرج خليفة وبرج سيرز، وغيرها من الرموز المعمارية الشاهقة التي تُجسد التقدم الهندسي والتكنولوجي.
وقد تنوعت تعريفات ناطحات السحاب عبر تاريخ الهندسة المعمارية، حيث قدم كل معماري ومهندس رؤيته الخاصة لهذا النوع من الأبنية. فمن بين التعريفات الأكثر شاعرية، نجد تعريف المعماري الشهير لويس سوليفان، الذي وصفها بأنها “أبنية ذات ارتفاع كبير وعلى قدر من المتانة والقوة، تزداد زهوًا وفخرًا كلما زاد علوها”، مُعبراً بذلك عن الإحساس بالعظمة والسمو الذي تُثيره هذه الأبنية.
من جهة أخرى، قدم ويليام ستاريت، المهندس الذي أشرف على بناء مبنى إمباير ستيت ومبنى شركة مانهاتن، تعريفًا أكثر عملية، حيث وصف ناطحة السحاب بأنها “أي مبنى مرتفع ذو هيكل فولاذي مغطى بجدار ساتر له”، مُركزًا على الجوانب الإنشائية والمادية لهذه الأبنية. كما قدم قاموس البناء المصور تعريفًا موجزًا يصفها بأنها “مبنى يتألف من العديد من الطوابق ومخدّم بمصاعد”، مُبرزًا الجانب الوظيفي والتكنولوجي الذي يُميزها.
أما مجلس المباني الشاهقة، فقد قدم تعريفًا أكثر شمولية، حيث نص على أن: “لا يُحدّد البناء الطويل بعدد الطوابق أو بارتفاعه، وإنّما المعيار المهمّ هو تأثّر التّصميم ببعض جوانب الطّول، حيث أنّ طول البناء يؤثّر على التّخطيط والتّصميم والبناء والاستخدام، فهو المبنى الذي يخلق ظروفًا مختلفةً عن تلك الموجودة في الأبنية العاديّة في منطقةٍ وفترةٍ زمنيّةٍ معيّنةٍ “، مُشيرًا إلى التأثيرات المتعددة التي يُحدثها ارتفاع المبنى على مختلف جوانب تصميمه وإنشائه واستخدامه.
وأخيرًا، توصل المهندسون المعماريون إلى تعريف أكثر تحديدًا، اعتمدته قاعدة بيانات Emporis لناطحات السحاب، والذي ينص على أنها “أي مبنى مسكون يتجاوز الاثني عشر طابقًا”، وبناءً على هذا التعريف، لا يُعتبر برج إيفل أو تمثال الحرية من ناطحات السحاب، حيث أنهما ليسا مباني سكنية.
تصميم وهندسة ناطحات السحاب
يُعدّ تصميم وهندسة ناطحات السحاب من التحديات الهندسية والمعمارية المعقدة، حيث يتطلب الأمر مراعاة العديد من العوامل لضمان سلامة واستقرار هذه المباني الشاهقة.
تُوضّح كايت آشر، النائب السابق للرئيس التنفيذي لمؤسسة التنمية الاقتصادية لمدينة نيويورك، في كتابها “The Heights” (“الارتفاعات”)، أن قوة الرياح تزداد بشكل ملحوظ مع زيادة ارتفاع المبنى، مما يُشكّل تحديًا كبيرًا لمصممي ومهندسي ناطحات السحاب.
فمن الضروري أن تتمتع هذه المباني بقدرة عالية على مقاومة الرياح الشديدة والكوارث الطبيعية الأخرى، مثل الزلازل والعواصف. ولتحقيق ذلك، يجب أن يتم تصميم البناء بحيث يكون قادرًا على التحرك والتمايل بشكل بسيط، وذلك لتجنب إتلاف العناصر الهيكلية للمبنى نتيجة للضغوطات الخارجية.
وتشير آشر إلى أن ارتفاع ناطحات السحاب نفسه يمكن استخدامه لزيادة قدرة البناء على التمايل، حيث أن المفاصل الموجودة في العوارض الفولاذية يمكن أن تتمدد وتتقلص استجابة لتغيرات الطقس والمناخ، مما يزيد من مرونة المبنى وقابليته للحركة البسيطة في الأجزاء العلوية منه.
ومن الأمثلة العملية على هذه التقنيات، نجد في بناء شنغهاي العالمي في الصين، حيث تم تصميم فتحة داخل البناء في أعلى الهيكل بهدف تقليل ضغط الرياح على المبنى. وفي مدينة فيلادلفيا، تم تجهيز بعض المباني العالية بمخمدات أو مثبطات مملوءة بكمية كبيرة من السائل تصل إلى 300 ألف جالون، حيث تعمل هذه المثبطات كأوزان موازنة تساعد البناء على التمايل بشكل آمن وامتصاص الصدمات الناتجة عن الرياح.
بالإضافة إلى ذلك، من الضروري تجهيز ناطحات السحاب بآليات متطورة لتدوير الهواء والمياه بشكل مستمر، وذلك لضمان توفير هواء نقي وجيد التهوية على مدار الساعة، وخاصة في الغرف الداخلية التي قد تعاني من نقص التهوية الطبيعية.
نبذة تاريخيّة عن ناطحات السحاب
شهد تاريخ البناء تحولًا جذريًا مع تطور صناعة الحديد والصلب والفولاذ، حيث لم تعد الهياكل الإسمنتية الحجرية القديمة، التي كانت تعاني من ضعف الإضاءة والتهوية بسبب محدودية النوافذ، الخيار الوحيد المتاح. ففي عام 1883، خطا المهندس المعماري ويليام جين خطوة رائدة ببناء مبنى التأمين على المنازل في شيكاغو، الذي يُعتبر أول مبنى حديث يعتمد على تقنية مبتكرة تقلل من حمل الجدران الإسمنتية بالاعتماد بشكل أساسي على الحديد الصلب والفولاذ في هيكل البناء.
ورغم أن هذا المبنى كان متواضعًا في حجمه، إلا أن التقنية التي اعتمدها، والمعروفة باسم “القفص” أو “الهيكل الحديدي”، فتحت آفاقًا جديدة أمام بناء الأبنية الشاهقة الحديثة. فقد أتاحت هذه التقنية استخدام نوافذ أكبر بكثير، مما أدى إلى تحسين الإضاءة والتهوية داخل المباني بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى تخفيض تكاليف مواد البناء بنسبة تصل إلى 15%. ومع استمرار التطور التقني في مجال البناء، أصبح من الممكن الاستغناء تمامًا عن الهيكل الداعم في بعض الحالات، كما نرى في مثال شقق لودفيج المغطاة بالزجاج كليًا.
كما لعبت عوامل اجتماعية واقتصادية دورًا مهمًا في انتشار فكرة ناطحات السحاب، فبعد انتهاء الحرب الأهلية في الولايات المتحدة عام 1865، شهدت المدن الكبرى مثل شيكاغو ونيويورك هجرة واسعة للسكان، مما دفع المصممين والمهندسين إلى التفكير في التوسع العمودي بدلًا من الأفقي، مستلهمين تصميم ويليام جين للهيكل الحديدي، وذلك لاستيعاب الأعداد المتزايدة من السكان وتلبية الحاجة المتنامية للمساحات المكتبية.
بالإضافة إلى ذلك، كان للعائد المادي والأرباح الناتجة عن البناء على أراضٍ ذات قيمة عالية بهيكل فولاذي دور كبير في تشجيع هذا التوجه. فقد أدرك المهندسون أن الارتفاع الاقتصادي الأمثل للمبنى هو ذلك الذي يضمن أقصى عائد على الاستثمار، مع الأخذ في الاعتبار قيمة الأرض والعمر الإنتاجي للهيكل، بالإضافة إلى توفير تصميم معماري وتخطيط جيدين، وإضاءة وتهوية مناسبتين، وتوفير الخدمات والمرافق الضرورية.
التطوّر التقنيّ لناطحات السّحاب
شهد عالم البناء تطوراً هائلاً في مجال ناطحات السحاب، ويعود الفضل في هذا التطور بشكل كبير إلى اختراع المصعد الآمن في عام 1853، حيث كان هذا الاختراع نقطة تحول حاسمة ساهمت في تغيير مفهوم الأبنية العالية.
فقبل هذا الاختراع، كان الحد الأقصى لارتفاع المباني يقتصر على ستة طوابق فقط، وذلك لصعوبة صعود الأدوار العليا مشياً على الأقدام، كما كان الإقبال على استئجار الطوابق العليا يقل تدريجياً كلما ارتفعنا عن الطابق الثالث، مما أثر على رغبة المالكين في بناء مبانٍ شاهقة.
لكن مع ظهور المصعد الآمن، تغير هذا المفهوم تماماً، حيث أصبح بالإمكان الوصول إلى الطوابق العليا بسهولة ويسر، ما شجع المالكين على بناء مبانٍ أعلى وأكثر عملية، وبالتالي، يمكن القول إن تطور المصاعد كان عاملاً أساسياً في تطور ناطحات السحاب، فكلما تطورت تقنية المصاعد، أمكن بناء مبانٍ أعلى وأكثر ارتفاعاً.
وخير مثال على ذلك مبنى تايبيه 101 في تايوان، الذي يتألف من مئة طابق وطابق واحد، ويضم أسرع المصاعد في العالم، ما يجعله نموذجاً فريداً في عالم ناطحات السحاب. إضافة إلى ذلك، يُعتبر تصميم الأساس المتين والقوي من أهم الجوانب التي يجب مراعاتها عند بناء ناطحات السحاب، حيث واجه المهندسون تحدياً كبيراً في إيجاد حل لمشكلة تحمل الأرض للأوزان الهائلة لهذه المباني الشاهقة.
وقد تمكن مهندسو شركة Burham & Root في شيكاغو من إيجاد حل مبتكر لهذه المشكلة من خلال استخدام شبكة من العوارض المعدنية المصنوعة من الصلب، وذلك بعد أن أدركوا أن الهياكل الإسمنتية التقليدية لا تستطيع تحمل الأوزان الكبيرة لناطحات السحاب.
وقد طوروا هذه التقنية من خلال ربط سكك حديدية بالزوايا مع عوارض من الحديد الصلب في الطوابق العليا، ما زاد من قوة ومتانة الهيكل. وقد تطورت هذه التقنيات مع مرور الوقت، فأصبحت ناطحات السحاب الحديثة تُصمم على أسس مليئة بالحديد والخرسانة، ما يضمن لها الثبات والاستقرار مهما بلغ ارتفاعها.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.