من هو ابن كثير الدمشقي؟ وما هي أهم المحطات في حياته؟ هذا العالم الجليل الذي ترك لنا إرثًا علميًا ضخمًا يستحق أن نتعرف عليه عن قرب. في هذا المقال، سنقدم لك سيرة ذاتية شاملة لابن كثير، بدءًا من مولده ونشأته وصولًا إلى إنجازاته العلمية وأثره في الحضارة الإسلامية.
حفِل التاريخُ الإسلاميُّ بالعديدِ من العلماءِ والعظماء، وقد برعَ كلُّ عالمٍ منهم بعلمٍ من العلومِ الشرعيّةِ العديدة، ومن العلومِ التي اختصّ بها هؤلاء العلماء علمُ الفقه؛ الذي تأسّسَ على أيدِي كبارِ أهلِ العلم، بالإضافة إلى علم الأصول، الذي يُعدّ أساس علم الفقه، وعلم الحديث الذي يدرسُ النصوص المنقولة عن النّبي صلى الله عليه وسلم، ويُبيّن معانيها، ويُميّز صحيحها عن غيره، وعلمُ التفسير الذي يُعنى بشرحِ معاني آيات كتاب الله والمراد منها وتحليلها، وغير ذلك من العلومِ الشرعيّةِ، وقد كان من بينِ العلماءِ المسلمين الذين برَعوا في العلومِ الشرعيّةِ ابنُ كثير
ابن كثير الدمشقي
هو إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير بن ضوء بن زرع، الشيخ الإمام العلامة عماد الدين أبو الفداء ابن الشيخ شهاب الدين أبي حفص القرشي البصروي الدمشقي الشافعي، من كبار علماء التفسير وصاحب أهم كتب تفسير القرآن الكريم المعروف بتفسير ابن كثير.
وُلد عام 700 للهجرة في قرية مجدل في سهل حوران في سوريا، حيث كانت أمه من نفس القرية وأبوه من بصرى، تفقه على يد الشيخ إبراهيم الفزازي بعمر الخمسة عشر عاما في دمشق، وتتلمذ على يد مجموعة أخرين من بعده أبرزهم ابن الشيرازي، وأحمد بن أبي طالب، والقاسم بن عساكر، تزوج من ابنة الشيخ جمال يوسف بن الزكى ورافق ابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام وأخذ من علمه، فقد بصره في أواخر حياته وتوفّي عام 774 للهجرة عن عمر يناهز الأربع وسبعين عامًا في دمشق ودفن إلى جوار ابن تيمية.
النّشأةُ
تربّى الإمامُ ابنُ كثير على يدِ شقيقهِ الأكبر، حيثُ توفّى الله تعالى والده الخطيب شهاب الدينِ، وقد قالَ ابن كثير عن شقيقه الذي تربّى في كنفهِ: (كان لنا شقيقاً، وبنا رفيقاً شفوقاً). شهِد الإمامُ ابنُ كثير العديدَ من أحداثِ القرنِ الثامن الهجريّ؛ حيثُ كان الحُكم في تلك الفترةِ لدولةِ المماليك، ومن الأحداثِ التي حصلت في القرن الثامن هجوم التتار على الدولةِ الإسلاميّة، وانتشارُ المجاعاتِ وتواليها على الدولةِ الإسلاميّةِ، وانتشار الأوبئةِ والأمراض، وقد حصدت هذهِ الأحداث ملايينَ النّاس، كما حصلَت في القرنِ نفسه عدّة حروبِ؛ أبرزها حرب المسلمين مع الصليبيّين، وانتشرت المؤامرات والفِتن على الدولةِ بينَ الأمراءِ والوزراءِ، ومع كلِّ ما اكتنفه هذا العصر من الحروبِ، والفتنِ، والأمراضِ، والأسقامِ، إلّا أنّه كان عصر النشاطِ العلميّ المتمثِّل بانتشار المدارسِ، وازدهارِ التأليفِ.
كانَ البيتُ الذي نشأ وتربّى فيه ابن كثير بيت دينٍ؛ حيثُ كانَ والده -رحمه الله- خطيباً، وقد كان لهذا الأمر أثرٌ ظاهرٌ في تميُّزِ ابن كثير -رحمه الله- ونبوغهِ، وقيل إنّ وفاة والد ابن كثير كانت في الرابعةِ من عمر ابن كثير، وفي روايةٍ أخرى في السابعة من عمره، وبعد وفاته انتقلت أسرته إلى مدينة دمشق، فاستقرَّت أُسرته بجوار المدرسةِ النوريةِ. ألَّف الإمامُ ابن كثير في صغرهِ كتاباً اسمه: أحكامُ التنبيه، وقد أُعجِب شيخه البرهان بالكتاب، وأثنى عليه.
يقولُ ابنُ العمادِ -رحمه الله- في وصفِ الإمام ابن كثير: (وكان كثير الاستحضارِ، قليل النسيان، جيّد الفهمِ، حَفِظَ كتاب التنبيه، ومختصر ابن الحاجب، ثمَّ أقبل على الحديث، فاشتغل بمطالعة متونه ورجاله، فسمع الموطّأ للإمام مالك، والجامع الصحيح للإمام البخاري، والجامع الصحيح للإمام مسلم، وسُنن الدارقطني، وشيئاً من السُّنن الكبرى للبيهقي، وسمع مسند الشافعي، وغير ذلك من المصنّفات الحديثيّة، وهو لا يزال في مقتبل العمر)، وقد برع الإمام ابن كثير في شتّى أصنافِ العلوم الشرعيّة؛ كالفقهِ، والتفسيرِ، والنحو، والحديث وغيرِ ذلك.
شخصية ابن كثير وأخلاقه
كان لابنِ كثير صفات في شخصيته وقدرات وأخلاق حميدة جعلته من خيرة العلماء، فكان حافظًا صاحب ذاكرة قوية فتميز في حفظ العلوم والمتون، تمكّن من حفظ القرآن الكريم في سن الحادية عشرة، كما تميز بالإستحضار والفهم الجيد مما مكنه من الإستنتاج المقبول، وعرف بالاجتهاد والدّراسة وتحري الدقة، كان سموح النفس خفيف الروح يهتم بطلابه ويخفف عنهم، ولطالما دعا إلى اتباع السلف وكان أكثر الناس التزاما بالحديث والسنة، حارب البدع وسعى لإبطالها، وتوسم بالخلق والفضيلة وسعة الصدر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عُرف بالعدل وإنصاف الخصوم والإصلاح الديني، كان ناصحًا ومرشدًا لا يخشى في الله لومة لائم.
منهج ابن كثير في تفسيره
اختلف المؤرّخون في معتقد الإمام ابن كثير فمنهم من زعم أنه أشعري العقيدة كونه تولى مشيخة دار الحديث الأشرفية التي من شروطها أن يكون أشعريًا، ومنهم من رآه من السلفية وذلك لمخالفته أصول الأشاعرة في كتبه ودروسه، أما نهجه في التفسير فتميز بالاختصار والسهولة وتوضيح المعني العام للآيات، واعتمد أسلوب التّبين فكان يجمع الآيات المتشابهة في الموضوع حتى يظهر المعنى، مع الرجوع للأحاديث النبوية وروايات الصحابة والتابعين وتابعي التابعين في تفسير القرآن، ولم يستثنِ ابن كثير الإسرائيليات من تفاسيره إلا أنّه أشار في مقدمة تفسيره بأنها للاستشهاد لا للاعتضاد، فكان يذكرها أحيانا مع التأكيد على عدم صحتها والتحذير منها، أو يكتفي بالإشارة إليها فقط مع بيان رأيه فيها في أحيان أخرى، كما كان يعتمد على اللغة العربية ومفهوم ألفاظها في التفسير.
تميز ابن كثير في تناول الأحكام الشرعية عند تفسير الآيات مدللًا بالمذاهب وأقوال العلماء التي رجع إليها مع ذكر الأسماء والشخوص تحريًّا للدقة والأمانة العلمية، إضافة إلى أنه كان يوضح الروايات الصحيحة الي توافق دلالات الآيات من الضعيفة التي تناقضها، ليثبت بذلك أنه كان صاحب شخصية بارزة وواضحة في نهجه، وكثُر المفسرون السابقون له الذين كان يقتبس عنهم مثل ابن تيمية، وابن جرير الطبري، وابن عطية.
المسيرة التعليميّة
الشيوخ
تتلمذ الإمامُ ابن كثير -رحمه الله- على أيدي العديدِ من العلماءِ الأجلّاء، ومن أبرزهم:
- الإمامُ الحافظُ يوسف المزّي.
- الإمامُ الحافظ الذهبيّ، أبو عبدُ الله محمد بن أحمد.
- الإمامُ أحمد بن تيمية.
- الشيخُ ابن الشُّحنة، أبو العبّاس أحمد الحجّار.
- الإمامُ محيي الدين الشيبانيّ، واسمه يحيى.
- الإمامُ شمس الدين محمد الشيرازيّ.
- الإمامُ الحافظُ شمسُ الدين محمود الأصبهاني.
- الإمامُ عفيفُ الدين إسحاق بن يحيى الآمدي الأصبهاني.
- الشيخُ بهاءُ الدين القاسمُ بن عساكر.
التلاميذ
تتلمذ على يدي الإمامِ ابن كثير العديد من التلاميذ النُّجباء، الذين سطعَ نجمهم وبرزَ في مجالاتٍ شتّى، ومن هؤلاء التلاميذ:
- الإمامُ الحافظُ علاء الدين، المعروف بابن حجّيّ، وهو أحدُ فقهاءِ المذهب الشافعيّ.
- الشيخُ محمد بن محمد بن خضر القرشيّ.
- شرفُ الدين مسعود الأنطاكيّ النحويّ.
- الإمام الجزريّ؛ شيخُ علمِ القراءات، واسمه محمد بن أبي محمد.
- محمد بن إسماعيل بن كثير، ابن الإمام ابن كثير رحمهما الله.
- الإمامُ ابن أبي العزّ؛ وهو من فقهاءِ المذهب الحنفيّ.
- الإمامُ الحافظ أبو المحاسن الحسينيّ.
مؤلفات ابن كثير
اشتغل ابن كثير في التفسير وعلم الحديث وتصنيفاته، وترك مؤلفات كثيرة وقيمة لم تزل إلى يومنا هذا وتُعد من أهم المراجع التي يتم الإعتماد عليها في دراسة علوم الحديث أو التفسير ومن أهمها:
- تفسير القرآن العظيم: المشهور بـتفسير ابن كثير ويعدّ ثاني كتاب بعد تفسير ابن جرير ويعتمد على التفسير بالرواية.
- البداية والنهاية في التاريخ: وهي موسوعة ضخمة تضم التاريخ منذ بدأ الخلق إلى القرن الثامن الهجري حيث جزء النهاية مفقود، تميز بجمع الآيات المتعلقة بقصة كل نبي في باب واحد، والربط بينها من خلال تفسيرها وذكر الأحاديث والآثار المتعلقة بها.
- اختصار علوم الحديث لابن الصلاح: هو كتاب شرح لعلوم الحديث مطبوع مع تعليقات للشيخ أحمد شاكر باسم الباعث الحثيث.
- طبقات الشافعية: ويشرح فيه طبقات فقهاء الشافعية ونبذة عن شخصية كل منهم من حيث نسبه وولادته ووفاته ومؤلفاته وسيرته العلمية.
- “مسند الشيخين” يعني أبا بكر وعمر: وذكر فيه إسلام أبو بكر وفضائله وشمائله وسيرة الفاروق وأورد ما رواه كل منهما عن النبي من أحداث.
- كتاب كبير للأحكام: ولم يكمله، وصل فيه إلى كتاب الحج.