إننا إذ نتحدث عن حجة الوداع، فإننا نتحدث عن لحظة فارقة في تاريخ الإسلام، لحظة حملت في طياتها وداعًا مؤثرًا ووصايا نبوية خالدة. كانت هذه الحجة خاتمة حجاج النبي صلى الله عليه وسلم، وختامًا لرسالته العظيمة، فكان فيها الوداع الأخير بينه وبين أمته، وكان فيها البيان التام والشرح الوافي لكل ما يحتاج إليه المسلمون في دينهم ودنياهم.
لقد كانت حجة الوداع بمثابة رسالة شاملة تضمنت كل ما يحتاج إليه المسلم في حياته، ففيها أصول الدين وأحكامه، وفيها الأخلاق الفاضلة والسلوك القويم، وفيها العلاقات الاجتماعية والحقوق والواجبات، وفيها السياسة والشورى والعدل، وفيها الاقتصاد والمعاملات. لقد كانت خطبة الوداع كنزًا لا يفنى، ومصباحًا يضيء الدروب، وبوصلة توجه السفن في بحر الحياة.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع
“أيها الناس، اسمعوا مني أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا، في مَوقفي هذا.
أيها الناس، إن دماءكم، وأموالَكم، حرامٌ عليكم إلى أن تَلقَوْا ربَّكم، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغتُ، اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة، فليؤدِّها إلى من ائتمنه عليها.
إن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث، وإن مآثر الجاهلية -يَعني أعمالها- موضوعة، غيرَ السِّدانة والسقاية، والعَمْد قَوَدٌ – يَعني: القتل العمد قصاص – وشِبْهُ العَمد ما قُتِلَ بالعصا والحَجَر، وفيه مائة بعير، فمن زاد، فهو من أهل الجاهلية.
أيها الناس، إنَّ الشيطان قد يئسَ أن يُعبدَ في أرضكم، ولكنه قد رضي أن يُطاعَ فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم.
أيها الناس، إن النسيء زيادةٌ في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدةَ الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعةٌ حُرم: ثَلاثٌ متواليات، وواحدٌ فرد، ألا هل بلَّغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم – يَعني أسيرات – ولا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يَحلُّ لامرئٍ مالُ أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، فلا ترجعوا بعدي كفَّارًا يَضرب بعضُكم رقابَ بعض، فإني قد تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعده؛ كتاب الله.
أيها الناس، إن ربَّكم واحدٌ، وإن أباكم واحد، كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عَجمي إلا بالتقوى، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد.
أيها الناس، إنَّ الله قد قسم لكلِّ وارثٍ نصيبَه من الميراث، ولا تَجوز لوارثٍ وصيَّةٌ، ولا تَجوز وصيَّة في أكثر من الثُّلثِ، والولد للفراش، وللعاهر الحجر، من ادَّعى لغير أبيه، أو تَولَّى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقبلُ الله منه صرفًا ولا عدلاً”.
وبعد الانتهاء من خطبة الوداع سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فقال: (وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقالَ: بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ اللَّهُمَّ، اشْهَدْ، اللَّهُمَّ، اشْهَدْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). ويُشار في النهاية إلى أن نص خطبة الوداع مبثوثٌ في الصحيحين وفي كتب السّنة، وكلها صحيحة.