يعتبر القرآن الكريم كلام الله المنزل، وهو دستور المسلمين ومصدر هدايتهم. ولأن المسلم يسعى لتلاوة القرآن والاتصال به في كل أحواله، يبرز سؤال مهم ومتكرر: هل يجب أن أكون على وضوء دائمًا لقراءة القرآن؟ وهل هناك فرق بين قراءته من المصحف مباشرة أو عن ظهر قلب؟
هذا السؤال ليس مجرد استفسار عابر، بل هو متعلق بكيفية تعظيمنا لكلام الله، وفهمنا للأحكام الشرعية التي تنظم علاقتنا به. في هذا المقال، سنجيب بوضوح وبساطة، مستندين إلى الأدلة من القرآن والسنة، لنفرق بين الحالات المختلفة ونقدم إجابة شافية.
الفرق بين “لمس المصحف” و”القراءة”
قبل الخوض في الأدلة، يجب أن نضع حجر الأساس الذي يُبنى عليه فهم هذه المسألة كلها. هناك فرق كبير في الحكم الشرعي بين أمرين:
- لمس المصحف الشريف: أي ملامسة الأوراق المكتوب عليها كلام الله بيد الشخص مباشرة.
- قراءة القرآن: أي تلاوة الآيات عن ظهر قلب (من الذاكرة)، أو من شاشة هاتف أو جهاز لوحي، أو بالنظر في المصحف دون لمسه.
الحكم يختلف تماماً بين الحالتين، وهذا هو مفتاح الإجابة.
1. حكم لمس المصحف الشريف بدون وضوء
الحكم: لا يجوز. جمهور العلماء والفقهاء من المذاهب الأربعة (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) على أنه يُشترط الوضوء (الطهارة من الحدث الأصغر) لجواز لمس المصحف.
الدليل من القرآن الكريم: يستدل العلماء بقول الله تعالى في سورة الواقعة: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (سورة الواقعة، الآية 79)
على الرغم من أن بعض المفسرين قالوا إن المقصود بـ “المطهرون” هنا هم الملائكة، إلا أن جمهور الفقهاء والمفسرين استنبطوا من هذه الآية حكماً للبشر. فإذا كان الكتاب المكنون في السماء لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة، فإن هذا القرآن الذي بين أيدينا، وهو نسخة منه، ينبغي ألا يمسه إلا المطهرون من البشر، أي المتطهرون من الحدثين الأصغر والأكبر.
الدليل من السنة النبوية: الدليل الأوضح والأكثر مباشرة هو ما جاء في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم، وفيه: «أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» (رواه الإمام مالك في الموطأ وصححه جمع من أهل العلم)
كلمة “طاهر” هنا تشمل الطهارة من الحدث الأكبر (الجنابة والحيض والنفاس) والطهارة من الحدث الأصغر (ما يوجب الوضوء). هذا الحديث يعتبر نصاً صريحاً في المسألة ويعتمده جمهور العلماء كدليل أساسي على وجوب الوضوء للمس المصحف.
2. حكم قراءة القرآن بدون وضوء (عن ظهر قلب أو من الهاتف)
الحكم: يجوز بالإجماع. أجمع العلماء على جواز قراءة القرآن الكريم عن ظهر قلب للمُحدث حدثًا أصغر (غير المتوضئ)، وكذلك القراءة من شاشة الهاتف أو الحاسوب.
الدليل من فعل النبي ﷺ: ثبت في السنة أن النبي ﷺ كان يذكر الله في كل أحواله. عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ» (رواه مسلم)
الشرح المبسط: قراءة القرآن هي من أعظم أنواع الذكر. وبما أن النبي ﷺ كان يذكر الله في كل أحواله، فهذا يشمل حالة كونه على غير وضوء. ولو كانت القراءة بدون وضوء محرمة، لبينها النبي ﷺ، فعدم وجود نهي صريح، مع عموم هذا الحديث، دليل قاطع على الجواز.
الدليل من عدم وجود دليل على المنع: الأصل في العبادات هو التوقيف (أي لا نشرع شيئاً إلا بدليل)، والأصل في العادات هو الإباحة. وقراءة القرآن كذكر هي من العبادات المطلقة التي لم يرد نص يشترط لها الوضوء، بخلاف الصلاة التي قال فيها النبي ﷺ: “لا يقبل الله صلاة بغير طهور”.
حالة خاصة: القراءة من الهاتف والوسائل الإلكترونية شاشات الهواتف والأجهزة اللوحية لا تأخذ حكم المصحف الورقي. لذلك، يجوز لمسها والقراءة منها بدون وضوء، لأن الشخص يلمس الزجاج وليس كلام الله مباشرة.
الفرق بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر
- الحدث الأصغر (يحتاج وضوء): يجوز له قراءة القرآن عن ظهر قلب، ولكن لا يجوز له لمس المصحف.
- الحدث الأكبر (الجنابة): لا يجوز له قراءة القرآن مطلقاً، لا من المصحف ولا عن ظهر قلب، حتى يغتسل. وهذا له أدلة أخرى تنهى الجنب عن قراءة القرآن.
ختاما
خلاصة القول، إن كنت تريد أن تقرأ القرآن من المصحف الشريف مباشرة وتتصفح أوراقه، فالوضوء واجب تعظيماً لكلام الله وعملاً بالأدلة الشرعية. أما إن كنت ستقرأ من حفظك، أو تتابع من شاشة هاتفك، فلا يلزمك الوضوء، والأمر جائز تماماً، وهذا من تيسير الله على عباده حتى لا ينقطعوا عن ذكره وتلاوة كتابه.
ومع ذلك، يبقى الأفضل والأكمل للمسلم أن يكون على طهارة عند قراءة القرآن في كل الأحوال، لأن هذا من كمال الأدب مع الله وكلامه، وهو أدعى للخشوع والتدبر.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.