عندما نتحدث عن التراث العربي، فإننا لا نستحضر فقط حكايات الماضي وقصائد الأجداد، بل نغوص في عالم من الإبداع الحسي الذي لا يزال ينبض بالحياة في أزقتنا وأسواقنا وبيوتنا. الفنون الشعبية ليست مجرد قطع أثرية تُعرض في المتاحف، بل هي روح الثقافة العربية المتجسدة في أنامل الحرفيين، وهي لغة جمالية تتوارثها الأجيال، لتحكي قصة وهوية كل منطقة بأسلوبها الفريد.
في عالم تهيمن عليه السرعة والإنتاج الضخم، تقف هذه الفنون كشاهد على قيمة الصبر والدقة والارتباط العميق بالأرض والتاريخ. إنها تمثل ذاكرة الأمة البصرية، وتحافظ على استمرارية تقاليد جمالية تمتد لقرون. من بين مئات الفنون التي تزخر بها منطقتنا، اخترنا لكم رحلة عبر ثلاث دول عربية مختلفة، لنسلط الضوء على ثلاثة أنواع من الفنون الشعبية التي لم تندثر، بل تكيفت وتجددت ولا تزال تبهرنا بجمالها حتى اليوم.
3 فنون شعبية عربية عريقة تتحدى الزمن
1. نسيج السدو (شبه الجزيرة العربية)
في قلب صحراء شبه الجزيرة العربية، حيث كانت الحياة تعتمد على الترحال والتكيف مع الطبيعة، وُلد فن “السدو”. هذا الفن ليس مجرد نسيج، بل هو سجل تاريخي وهوية ثقافية نسجتها نساء البدو ببراعة فائقة. يُعرّف السدو بأنه فن الحياكة التقليدية باستخدام النول الأرضي، حيث تُحول خيوط صوف الأغنام ووبر الإبل وشعر الماعز إلى قطع فنية تُستخدم في كل جوانب الحياة، من بناء الخيام “بيوت الشعر” إلى سروج الخيل والجمال والمفروشات والأغطية.
ما يميز السدو هو رمزيته العميقة. فالأشكال الهندسية البسيطة التي تزين كل قطعة ليست مجرد زخارف عشوائية، بل هي أبجدية بصرية تروي حكايات البيئة الصحراوية. الخطوط المتعرجة تمثل الكثبان الرملية، والأشكال المعينية ترمز إلى النجوم التي كانوا يهتدون بها، وغيرها من الرموز التي تعبر عن الآبار والقبيلة والحيوانات. أما الألوان، فكانت تُستخلص من النباتات الصحراوية، حيث يهيمن الأحمر والأسود والأبيض، لتعكس ألوان الصحراء القاسية والجميلة في آن واحد.
لماذا لا يزال حياً؟ لأهميته الثقافية البالغة، تم إدراج نسيج السدو في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي. واليوم، لم يعد السدو حبيس الخيام وبيوت الشعر، بل شهد نهضة حقيقية. دخل بقوة إلى عالم الموضة والتصميم الداخلي، حيث نرى نقوشه تزين الحقائب العصرية، والأثاث الفاخر، والوسائد، والملابس. لقد نجح هذا الفن في بناء جسر بين التراث العربي الأصيل والحداثة، ليثبت أن الجمال التقليدي يمكن أن يكون عصرياً وأنيقاً.
2. فن الزليج (المغرب)
بمجرد أن تطأ قدماك أرض المغرب، ستأسرك لوحات فنية تزين الجدران والأرضيات والنوافير في كل مكان، من القصور الملكية والمساجد التاريخية إلى البيوت العادية. هذا هو فن “الزليج”، وهو فن تجميع قطع السيراميك الصغيرة الملونة والمقطوعة يدوياً لتشكيل لوحات فسيفسائية ذات أنماط هندسية ورياضية معقدة لا نهاية لها.
يعود أصل هذا الفن إلى العصر الأندلسي، وقد وصل إلى ذروة إبداعه في المغرب. عملية صنع الزليج هي رحلة من الدقة والصبر، تبدأ بتشكيل الطين وتجفيفه وطلائه بألوان زجاجية، ثم شيّه في أفران تقليدية. بعد ذلك، يأتي دور “المعلّم” أو الحرفي الخبير، الذي يرسم الأنماط الهندسية على القطع الكبيرة، ثم يقوم بقصها يدوياً باستخدام مطرقة حادة “المنقاش” إلى قطع صغيرة تسمى “الفُرمة”. وأخيراً، يتم تجميع هذه القطع الصغيرة مقلوبة (الوجه الملون للأسفل) مثل أحجية عملاقة، ثم يصب عليها الإسمنت لتثبيتها معاً.
لماذا لا يزال حياً؟ الزليج هو جزء لا يتجزأ من الهوية المعمارية المغربية. إنه يجسد قمة الفن الإسلامي الذي يعتمد على الهندسة والرياضيات لخلق جمال روحي متناغم يتجنب تصوير الكائنات الحية. اليوم، لم يعد الزليج مقتصراً على العمارة التقليدية، بل أصبح عنصراً فاخراً في التصميمات الحديثة حول العالم. يُستخدم لتزيين المطابخ والحمامات وحمامات السباحة وحتى في قطع الأثاث والطاولات، مما يضيف لمسة من الفخامة والأصالة التي لا تضاهى، ويحافظ على استمرارية هذا النوع الفريد من الفنون الشعبية.
3. الخيامية (مصر)
في شارع ضيق متفرع من بوابة المتولي في القاهرة القديمة، يقع “شارع الخيامية”، وهو سوق تاريخي لا يزال يحتضن أحد أقدم وأجمل الفنون الشعبية المصرية. فن الخيامية هو فن صناعة الأقمشة الملونة المستخدمة في تزيين السرادقات والخيام الاحتفالية، وهو فن يعتمد على تقنية الترقيع أو الإضافة (Appliqué)، حيث يتم قص قطع من القماش الملون وخياطتها يدوياً على قطعة قماش أساسية (غالباً من التيل السميك) لتكوين لوحات فنية بديعة.
تمتد جذور هذا الفن إلى العصور الفرعونية، وازدهر بشكل كبير في العصر الإسلامي، حيث كانت تُصنع كسوة الكعبة المشرفة في مصر وتُرسل في موكب مهيب محملة على الجمال المزينة بأقمشة الخيامية. الموضوعات التي يصورها فنانو الخيامية متنوعة وغنية، وتشمل الزخارف الإسلامية، والخط العربي، وقصص من التراث الشعبي مثل حكايات جحا، ومناظر من الحياة الريفية والنيلية، بالإضافة إلى الرموز الفرعونية.
لماذا لا يزال حياً؟ على الرغم من تراجع استخدام السرادقات التقليدية، إلا أن فناني الخيامية نجحوا في التكيف مع متطلبات العصر. بدلاً من التركيز على الأقمشة الكبيرة فقط، بدأوا في إنتاج قطع فنية أصغر حجماً تناسب الحياة العصرية، مثل أغطية الوسائد، ومفارش الطاولات، والمعلقات الجدارية التي تُباع للسياح والمصريين على حد سواء كقطع ديكور فريدة. لقد تحول فن الخيامية من فن وظيفي إلى فن جمالي في المقام الأول، مما ضمن بقاءه واستمراريته كجزء حي من الثقافة العربية المصرية.
ختاما
إن فنون السدو والزليج والخيامية هي أكثر من مجرد حرف يدوية؛ إنها شهادات حية على عبقرية وإبداع الثقافة العربية. هي قصص منسوجة ومُجمّعة ومُخيّطة، تحمل في طياتها تاريخنا وهويتنا وجمالياتنا. دعم هذه الفنون من خلال اقتنائها والتعريف بها ليس مجرد تقدير للجمال، بل هو مساهمة فعالة في الحفاظ على التراث العربي حياً ومزدهراً للأجيال القادمة.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.