في رحلة الحياة المليئة بالتقلبات، يبحث الإنسان دائماً عن الطمأنينة والأمان. القلق من المستقبل (الخوف) والحسرة على الماضي (الحزن) هما الشعوران اللذان يسلبان الإنسان راحة باله. ولكن القرآن الكريم، كتاب الله الخالد، يمنحنا وصفة واضحة وبشارة عظيمة، فيكرر عبارة “لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” كأعظم مكافأة ربانية لفئات محددة من الناس.
هذه العبارة لا تعني مجرد راحة دنيوية، بل هي وعد بالأمان التام في أصعب المواقف، يوم القيامة وفي الحياة الأبدية. فمن هم هؤلاء الأحد عشر صنفاً من الناس الذين نالوا هذا الوسام الإلهي؟ دعنا نستعرضهم واحداً تلو الآخر كما وردوا في كتاب الله، ليكونوا لنا نبراساً نهتدي به.
من هم الذين “لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”؟
1. المتبعون لهدى الله
أول وعد إلهي بالأمان كان لمن يختار طريق الله ويرفض طريق الضلال. فطالما أن الإنسان متمسك بالدليل الذي أرسله خالقه، فلن يضل ولن يشقى.
الدليل من القرآن:
- ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 38) كل من يتبع الرسالات والكتب التي أنزلها الله، ويعيش حياته وفقاً لمنهجه، فهو في مأمن من الخوف والحزن.
2. المؤمنون الصالحون من كل الأديان
يؤكد القرآن أن باب الرحمة الإلهية ليس حكراً على أمة بعينها، بل هو مفتوح لكل من صدّق بالله واليوم الآخر بصدق، وأتبع إيمانه بالعمل الصالح.
الدليل من القرآن:
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 62) المعيار عند الله هو حقيقة الإيمان والعمل الصالح، وليس مجرد الانتماء بالاسم. فكل من حقق هذين الشرطين بصدق، أياً كان أصله، فهو من أهل النجاة.
3. من أسلم وجهه لله وهو محسن
هنا وصف دقيق لأعلى مراتب الإيمان، وهو الاستسلام الكامل لله، ليس فقط في العبادة، بل في كل شؤون الحياة، مع الإحسان إلى الخلق.
الدليل من القرآن:
- ﴿بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 112) “إسلام الوجه لله” يعني إخلاص النية والتوجه الكامل لله وحده، و”الإحسان” هو أن تعبد الله كأنك تراه وأن تحسن إلى الناس. من جمع بينهما ضمن الأمان التام.
اقرأ المزيد: من هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟
4. المنفقون دون منٍّ أو أذى
العطاء المادي له قيمة عظيمة في الإسلام، لكن بشرط أن يكون خالصاً لوجه الله، لا يتبعه تفاخر يؤذي مشاعر الفقير.
الدليل من القرآن:
- ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ۙ لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 262) الصدقة التي لا يتبعها تذكير للمعطى بها أو إحراجه، هي الصدقة المقبولة التي تجلب الأمان لصاحبها.
5. المنفقون في كل الأوقات سراً وعلانية
هؤلاء هم من جعلوا العطاء جزءاً من حياتهم، لا ينتظرون مناسبة أو وقتاً معيناً، بل يدهم ممدودة بالخير في كل حين.
الدليل من القرآن:
- ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 274) سواء رآهم الناس أم لم يروهم، في ظلمة الليل أو ضوء النهار، عطاؤهم مستمر، لذلك أجرهم وأمانهم عند الله مستمر.
6. المؤمنون العاملون للصالحات والمقيمون للصلاة
هذه الآية تجمع أركان النجاة: الإيمان القلبي، والعمل الصالح الظاهري، وعلى رأسه الصلاة والزكاة اللتان هما عماد الدين.
الدليل من القرآن:
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة البقرة، الآية 277) من جمع بين إيمان القلب الصحيح، والأعمال الصالحة، وحافظ على صلته بربه (الصلاة) وحقوق عباده (الزكاة)، فقد نال وعد الأمان.
7. الشهداء في سبيل الله
للشهداء منزلة خاصة جداً، فهم أحياء عند ربهم، فرحون بما آتاهم الله من فضله، وقد أزال الله عن قلوبهم أي خوف أو حزن.
الدليل من القرآن:
- ﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 170) الآية تصف حال الشهداء بأنهم في نعيم دائم، بل ويتمنون لإخوانهم الذين ما زالوا في الدنيا أن يلحقوا بهم لينالوا نفس السكينة والطمأنينة.
8. المؤمنون المصلحون
ليس المطلوب أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه فقط، بل أن يسعى لإصلاح ما حوله، ونشر الخير، ونهي الناس عن الفساد.
الدليل من القرآن:
- ﴿فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة الأنعام، الآية 48) الإيمان المقرون بالإصلاح، سواء إصلاح النفس أو إصلاح المجتمع، هو طريق مباشر لنيل الأمان الإلهي.
9. المتقون المصلحون
التقوى هي مفتاح كل خير، وهي أن تجعل بينك وبين غضب الله وقاية بفعل الأوامر واجتناب النواهي.
الدليل من القرآن:
- ﴿فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة الأعراف، الآية 35) من جمع بين مراقبة الله في السر والعلن (التقوى) وبين العمل على إصلاح نفسه ومجتمعه، فهو من الفائزين بالأمان.
10. أولياء الله
“أولياء الله” هم أحباب الله وأنصاره، الذين تولاهم الله بحفظه ورعايته، وتولوه بالطاعة والمحبة.
الدليل من القرآن:
- ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة يونس، الآية 62) الآية التالية مباشرة تعرفهم بأنهم “الذين آمنوا وكانوا يتقون”. فكل مؤمن تقي هو ولي لله، وله البشرى بالأمن التام في الدنيا والآخرة.
11. المستقيمون على التوحيد
الاستقامة هي أعظم الكرامات، وتعني الثبات على طريق الحق دون انحراف أو تردد، والتمسك بكلمة التوحيد “ربنا الله”.
الدليل من القرآن:
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (سورة الأحقاف، الآية 13) لا يكفي أن يقول الإنسان “ربي الله” بلسانه، بل يجب أن يثبت على هذا الإيمان قولاً وعملاً وسلوكاً حتى يلقى الله، وجزاؤه هو الأمان الكامل.
ختاما
عندما نتأمل في هذه الأصناف الأحد عشر، نجد أن هناك خيطاً ذهبياً يربط بينهم جميعاً: الإيمان الصادق، والعمل الصالح، والإخلاص، والتقوى، والاستقامة. إن وعد الله بالأمان ليس حلماً بعيد المنال، بل هو ثمرة طبيعية لمن يعيش حياة متصلة بخالقه، ومحسنة لخلقه. فالطريق إلى السكينة الحقيقية، وإلى حياة “لا خوف فيها ولا حزن”، يبدأ من هنا، من قرار صادق بأن نكون من هؤلاء الذين وصفهم الله في كتابه.
اكتشاف المزيد من عالم المعلومات
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.