القائمة إغلاق

من هو الشاعر أبو تمام

برز الشاعر أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي، كأحد أبرز نجوم سماء الشعر العربي في العصر العباسي، وذلك في الفترة الممتدة بين عامي 176 و 231 هجريًا. قصته تعدّ ملحمة صعودٍ مبهرة، إذ بدأ حياته متواضعًا يعمل ساقيًا في مسجد عمرو بن العاص بمصر، ثم ارتقى سلم المجد والشهرة حتى أصبح شاعرًا مرموقًا يُشار إليه بالبنان.

إن هذا التحول المذهل لم يكن وليد الصدفة، بل كان ثمرة اجتهادٍ لا يكلّ وطموحٍ لا يعرف المستحيل. فقد تمكن أبو تمام، بفضل موهبته الفذة وعزيمته الصلبة، من أن يطوّر أسلوبًا شعريًا خاصًا به، يتميز بالتفرد والإبداع، ويبعد كل البعد عن أساليب الشعراء الذين سبقوه.

هذا الأسلوب المبتكر جعل قصائده تحمل بصمة شخصية واضحة، مما أضفى عليها جاذبية خاصة لدى النقاد والجمهور على حد سواء. وقد بلغ به الأمر أن أصبح شاعر العصر بلا منازع، لدرجة أن المؤرخ والأديب أبو الفرج الأصفهاني وصف مكانته بقوله: “ما كان أحدٌ من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهمًا في حياة أبي تمام فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه”.

إن هذا الوصف الدقيق يجسّد مدى الإعجاب والتقدير اللذين حظي بهما أبو تمام في عصره، وكيف كان شعره يمثل مصدرًا للرزق والعيش الكريم للكثير من الشعراء بعد وفاته. لقد كان أبو تمام مثالاً للشاعر المبدع الذي استطاع أن يترك بصمة خالدة في تاريخ الأدب العربي، ويبقى اسمه منارة تضيء درب الشعراء الأجيال القادمة.

أبو تمام، الشاعر العربي الكبير، حبيب بن أوس الطائي، يكتنف نسبه بعض الغموض والاختلاف في الروايات. فبينما يذهب بعض المؤرخين إلى أنه من قبيلة طيء، ولد في قرية جاسم عام 190 هجريًا، إلا أن روايات أخرى تشير إلى أنه حبيب بن تدوس، نصراني الأصل أسلم لاحقًا، مما أثار جدلاً حول أصله القبلي.

هذه الاختلافات في النسب ليست غريبة على بيئة الشعراء في ذلك الزمان، حيث كانت الأنساب تمثل عنصرًا أساسيًا في بناء الهوية الاجتماعية، وكان خصوم الشعراء يستغلون أي خلل فيها للتطاول عليهم والتقليل من شأنهم. ويبدو أن هذا ما حدث مع أبي تمام، حيث شكك بعض معاصريه في انتسابه إلى قبيلة طيء، مستغلّين ذلك في مهاجمته.

إلا أن الباحث محمد نجيب البهتيتي يرى أن هذا التشكيك لا يعدو كونه محاولة للنيل من مكانة الشاعر، مؤكدًا أن ثقافة أبي تمام وأدبه هما ما يحددان هويته الحقيقية، وليس نسبه القبلي. فمهما اختلفت الروايات حول أصوله، يبقى أبو تمام أحد أبرز شعراء العربية، وقد ترك إرثًا أدبيًا غنيًا أثّر في الأجيال اللاحقة.

تكتنف غموضٌ ملحوظٌ مسار حياة الشاعر العربي الكبير أبي تمام، إذ تتضارب الروايات حول نشأته ومراحل حياته المبكرة. فبينما يذكر ابن خلكان في كتابه أن ولادة أبي تمام كانت في قرية جاسم الواقعة بين دمشق وطبريا، وأن نشأته تمت في مصر، إلا أنه يستخدم تعبير “قيل” للدلالة على عدم قطعية هذا الخبر. هذا التردد في النقل يعززه ما ذكره ابن خلكان نفسه عن الصولي، الذي يعتبر من أبرز المؤرخين الأدبيين، حيث نقل الصولي رواية أخرى تتعارض مع رواية النشأة في مصر.

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي كتاب “طبقات الأدباء” للأنباري، نجد رواية مغايرة تماماً، إذ يذكر الأنباري أن أبا تمام نشأ في مصر وعمل ساقياً فيها. هذه الرواية تتجاهل رواية العمل في دمشق التي ذكرتها بعض المصادر الأخرى. إلا أن هناك نقطة مهمة يجب الانتباه إليها، وهي أن الأنباري توفي في عام 588 هـ، أي بعد وفاة أبي تمام بثلاثة قرون ونصف.

هذا الفارق الزمني الشاسع يثير تساؤلات حول مدى دقة هذه الرواية، ويجعلنا نرجح أنها قد تكون رواية لاحقة أُضيفت إلى الكتاب، لا سيما وأن مصطفى صادق الرافعي يرى أن هذه الرواية الغريبة قد تكون وضعت عمداً للتقليل من شأن أبي تمام والتشكيك في مكانته الشعرية.

مما يدفع القارئ للاستنتاج بأنّ أبا تمام وُلد في الشام وقدم إلى مصر شاعراً ناشئاً كغيره من شعراء الأندلس، والمغرب، والشام، والجزيرة العربية، وكان ذلك في ولاية عبد الله بن طاهر، وكما يذكر في التاريخ أنّ ولايته كانت بالفترة 210 هـ أو 211 هـ، حيث كان أبو تمام يبلغ حينها 21 أو 23 عاماً، وقد قصده أبو تمام إلى مصر كما قصده بعد ذلك إلى خراسان في سنة 220 هـ، وهي السنة التي نشر فيها أبو تمام كتاب الحماسة.

نشأ أبو تمام وتلقى علومه الأولى في الشام، حيث تردد على حلقات العلم في مساجد دمشق، وتفقه في الدين واللغة والشعر، ليتحول بذلك من حرفة النسج إلى حرفة الشعر. تشير الروايات الأكثر قبولاً إلى أن مسيرته الشعرية بدأت في الشام، قبل انتقاله إلى مصر حيث نظم قصيدتيه الشهيرتين النونية والدالية اللتين نظمهما في مصر بعد نزوله في الفسطاط وإقامته في مسجد عمرو بن العاص.

كما يُعرف عنه تنقله بين أغراض الشعر على اختلافها، فهذه قصيدته التي نظمها في رثاء عمير بن الوليد سنة 214هـ، وتلك قصيدة مدح فيها عبد الله الظاهر حاكم مصر، بالإضافة إلى ما كتبه من قصائد هجاء كان منها ما هجى به الشاعر يوسف السراج، وابن الجلودي الذي هو قائد من قوّاد المأمون.

أثار مكان ولادة أبو تمام ونشأته جدلاً بين المؤرخين، ففي حين تشير روايات إلى نشأته في مصر وعملها ساقياً، ترجح روايات أخرى نشأته في الشام وتعلمها في دمشق. وتضعف الرواية الأولى بمرور الزمن، إذ وردت في كتاب طبقات الأدباء للأنباري بعد وفاة أبي تمام بقرون، مما يثير تساؤلات حول مدى دقتها وموضوعيتها.

بعد فترة إقامته في مصر، انتقل أبو تمام إلى دمشق ثم إلى الموصل، وتنقل بين المدن العربية، مدحاً للحكام والأمراء. وبعد وفاة المأمون، ارتحل إلى بغداد حيث لقي استحسان الخليفة المعتصم الذي قربه إليه وكلفه بمدح فتوحاته وانتصاراته. وقد تمتع أبو تمام بعلاقات طيبة مع كبار رجال الدولة في العصر العباسي، مما ساعده على تحقيق الشهرة والمكانة الرفيعة في عالم الشعر.

سافر أبو تمام إلى خراسان ليمدح عبد الله بن طاهر، وعند عودته إلى بغداد، عُهد إليه بتأليف كتاب الحماسة، الذي يعد من أهم مؤلفاته وأكثرها تأثيراً في الأدب العربي. وقد جمع في هذا الكتاب نخبة من أجمل القصائد العربية، ووضع لها شروحاً وتحليلات، مما جعله مرجعاً أساسياً لدراسة الشعر العربي.

كان أبو تمام نموذجاً بارزاً للشاعر المبدع الذي يتميز بذكاء حاد ونفاذ بصيرة لم يسبق له مثيل في عصره. هذا الذكاء لم يكن مقتصراً على الجانب اللغوي والمعرفي فحسب، بل امتد ليشمل قوة إحساس بالغة، حيث كان يتأثر بالأشياء تأثراً عميقاً وسريعاً، مما أضفى على شعره عمقاً وتفصيلاً نادرين.

هذه القدرة على الإحساس العميق دفعت به إلى التعمق في المعاني واستكشاف أبعادها الخفية، متجاوزاً بذلك السطحية والضحالة التي كانت سائدة في شعره عصره. وكان هذا التعمق في المعاني بمثابة سلاح ذي حدين، فقد ساعده على فهم الأشياء فهماً دقيقاً وواضحاً، وحصّنه ضد الأخطاء في التقدير، وجعله يتمتع بقوة عقلية فذة.

إلا أن هذا التعمق ذاته أدى به إلى استخدام ألفاظ ومعانٍ غريبة لم يعتدها الناس، مما جعل شعره يبدو متكلفاً ومشاكلاً في نظر الكثيرين. فبينما كان هذا التكلف ثمرة لعمق تفكيره وإبداعه، إلا أنه كان عائقاً أمام انتشار شعره وفهمه على نطاق واسع. وهكذا، كان أبو تمام شاعراً متفرداً يتميز بعبقرية فذة، ولكن هذه العبقرية نفسها كانت سبباً في عزلة شعره عن جمهور القراء، مما يطرح تساؤلاً حول العلاقة بين الإبداع والفهم، وبين الابتكار والتلقى.

لا شك أن الشاعر أبو تمام قد حفر لنفسه مكانة رفيعة بين شعراء عصره، فقد تميز بقدرة فائقة على تجسيد البداهة الشعرية في قالب فني متفرد، يميزه عن غيره من الشعراء. وقد كان لتجواله الواسع في أرجاء البلاد الإسلامية، بدءًا من الشام ومروراً بمصر والعراق وصولاً إلى فارس، الأثر البالغ في تنويع تجربته الشعرية، وإثراء معارفه اللغوية والأدبية. فقد قال:

بالشَّامِ أهلي، وبَغداد الهوى وأنا

بالرَّقتين، وبالفسطاط إخواني

وما أظنُّ النَّوى ترضى بما صَنعتُ

حتى تُطوِّحَ بي أقصى خَراسان

خلَّفتُ بالأفق الغربيَّ لي سكناً

قد كانَ عيشي به حُلواً بحُلوانِ

ويُلاحظ اعتناء الأدباء قديماً أمثال الخارزنجي، وأبو بكر الصولي، وأبو العلاء المعري، والمرزوقي والتبريزي، بالإضافة إلى اللكثيرين من الأدباء والعلماء المعاصرين في تحليل وترتيب شعر أبي تمّام، فاجتُمع على أنّه خلّف وراءه الكثير الحسن والقليل الرديء، فيما نال المدح أكثر من ثلث ما كتبه، فقد مدح الكثير من الخلفاء، والأمراء، والورزاء، والشعراء، والقُوّاد وغيرهم في البلدان التي مرَّ فيها، وقد كتب أبو تمام 513 قصيدة يمكن تصنيف الأغراض الشعرية التي وردت فيها كالأتي:

  • 185 قصيدة للمدح بين المطولة والقصيرة.
  • 136 قصيدة للغزل.
  • 92 قصيدة للهجاء.
  • 35 قصيدة للمراثي.
  • 30 قصيدة للمعاتبات.
  • 22 قصيدة للأوصاف.
  • 8 قصائد للفخر.
  • 5 قصائد للوعظ والزهد.

لا شك أنّ الشاعر أبو تمام كان من الشعراء العلماء، إذ اعتبرت مختاراته الشعرية من أحسن الدراسات الأدبية، حيث كان من شأنها أن تضع أبا تمام إلى جانب العلماء أمثال الأصمعي، والمفضل الضبّي، وخلف وغيرهم من أجلّة علماء اللغة والأدب، وقد كان من هذه المختارات:

  • كتاب الاختيارات من أشعار القبائل: يشمل مختارات من أغاني القبائل.
  • كتاب الاختيارات من أشعار الشعراء: يشمل مختارات من أغانٍ لشعراء لا يُعرف عنهم إلّا القليل.
  • الفحول: يشمل مجموعة من أجود قصائد الجاهلية والإسلام وتنتهي بابن هرمة.
  • الحماسة: رتبها أبو تمام ضمن عشرة أبواب، وضمّنها عيوناً من الشعر العربي تعود لمختلف العصور، وهي المجموعة الوحيدة التي وصلت إلينا من مجموعاته إلى جانب الوحشيات وهي الحماسة الصغرى.
  • اختيار المقطعات: قام بترتيبها على نسق الحماسة، لكنه بدأه بالغزل.

لقد تعددت الأقوال في تاريخ وفاة الشاعر أبو تمام، فلقد أجمع كل من محمد بن موسى، بالإضافة إلى أبو سليمان النابلسي أنه توفي في الموصل في عام 231هـ، وأضاف النابلسي أنّه ولد عام 188هـ، لكنّعون بن محمد الكندي فقال خالفهم في تاريخ ولادته فقال إنّه كان عام 190هـ، فيما قال إنّه توفي في محرم عام 232هـ. وفيما يلي بعض أبيات الشعر التي قيلت في رثائه:

فقد رثاه الحسن بن وهاب فقال:

سَقتْ بالموصل القَبرَ الغريبَا

سحائِبُ يَنتحِبنَ لَهُ نَحِيبَا

إذا أطلَعنَهُ أطلَقنَ فيهِ

شُعيبَ المُزنِ مُنبعقاً شَعيبَا

ورثاه علي بن الجهم فقال:

غاضَتْ بدائعُ فِطنَةِ الأوهامِ

وعَدت عليهَا نكبَةُ الأيام

وغَدا القريضُ ضئيلَ شَخصٍ باكياً

يشكو رَزِيتَهُ إلى الأقلام

Related Posts

اترك رد