كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل الفقراء والمحتاجين؟

في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نجد منهج حياة متكامل، ونموذجًا إنسانيًا فريدًا في كل جوانبه. ومن بين أروع وأكثر الجوانب إشراقًا في شخصيته العظيمة، تأتي طريقة تعامله مع الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع: الفقراء والمحتاجين. لم يكن تعامله معهم مجرد عطاء مادي عابر، بل كان منظومة متكاملة من الرحمة، والاحترام، والمواساة، والتمكين، مما جعله بحق “رحمة للعالمين”.

إن دراسة هذا الجانب من سيرته ليست مجرد استعراض لقصص تاريخية، بل هي استلهام لمبادئ خالدة يمكنها أن تصلح مجتمعاتنا اليوم. كيف كان النبي، قائد الدولة ورسول الأمة، ينحني ليواسي فقيرًا؟ وكيف حوّل مفهوم الصدقة من مجرد إحسان إلى حق أصيل للفقير وواجب على الغني؟

1. المشاركة الوجدانية والشعور بالآخر:

قبل العطاء المادي، كان أساس تعامل النبي صلى الله عليه وسلم هو المشاركة الوجدانية العميقة. لم يكن يعيش في برج عاجي بمعزل عن هموم الناس، بل كان يشعر بألمهم وجوعهم كأنه ألمه وجوعه الشخصي.

  • الجوع من أجل الجوعى: تروي لنا السيرة مواقف عديدة كان النبي صلى الله عليه وسلم يربط فيها الحجر على بطنه من شدة الجوع، ليس فقط لقلة ما عنده، بل ليظل دائمًا متذكرًا لحال الفقراء. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: “ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام بر ثلاث ليال تباعًا حتى قبض”. هذه الحالة من الزهد الاختياري جعلت قلبه دائمًا متصلاً بمعاناة المحتاجين.
  • التعاطف قبل السؤال: كان يعرف أحوال أصحابه ويتفقد غائبهم. عندما كان يرى على أحدهم أثر الفقر أو الحاجة، كان وجهه يتغير ويظهر عليه الحزن والهم، ثم يبادر بالبحث عن حل، حتى قبل أن يسأله الفقير. هذا التعاطف الفطري هو الذي جعل الفقراء يشعرون بأنه واحد منهم، وليس متعاليًا عليهم.

2. حفظ الكرامة الإنسانية:

كان المبدأ الذهبي في عطاء النبي صلى الله عليه وسلم هو حفظ كرامة الفقير. لقد حارب بشدة فكرة “المنّ” أو التفاخر بالعطاء، وجعل من احترام مشاعر المحتاج أولوية قصوى.

  • العطاء في الخفاء: كان يحث دائمًا على صدقة السر، وجعلها من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وكان هو نفسه يطبق ذلك، فيحمل الطعام ليلاً ويوزعه على بيوت الفقراء دون أن يعرفوا من هو، حتى لا يشعروا بالحرج.
  • الوجه البشوش والكلمة الطيبة: لم يكن عطاؤه ماديًا فحسب. علمنا أن “الكلمة الطيبة صدقة” وأن “تبسمك في وجه أخيك صدقة”. كان يقابل الفقير بوجه طلق مبتسم، ويستمع إلى شكواه بصبر واهتمام، ويجبر خاطره بكلمة حانية، حتى لو لم يكن يملك ما يعطيه في تلك اللحظة.
  • احترام السؤال: لم يكن يزجر سائلاً أو ينهره أبدًا، تطبيقًا لقوله تعالى: “وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ”. كان إما أن يعطي، أو يرد ردًا جميلاً معتذرًا. يُروى أنه جاءه رجل يسأله، فلم يجد النبي شيئًا يعطيه، فقال له: “اشترِ على حسابي، فإذا جاءنا شيء قضيناه”. لقد أراد أن يحفظ ماء وجه السائل بأي ثمن.

3. تفضيل الآخرين على النفس والأهل:

وصل النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الفقراء إلى أعلى درجات الإيثار، حيث كان يؤثرهم على نفسه وأهل بيته، حتى في أشد لحظات الحاجة.

  • لا يدخر شيئًا لغد: كان بيت النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف معنى الادخار. كان المال أو الطعام يأتيه اليوم، فيوزعه بالكامل على الفقراء والمحتاجين قبل أن تغرب الشمس. قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: “كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أَدَمٍ (جلد) حشوه ليف”.
  • قصة المرأة والبردة: أهدت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بردة (عباءة) جميلة، فلبسها وكان محتاجًا إليها. فرآه رجل من الصحابة فقال: “يا رسول الله، ما أحسن هذه، فاكسنيها!”. فخلعها النبي وأعطاها له. فلامه الصحابة قائلين: “ما أحسنت، لبسها النبي محتاجًا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً”. فقال الرجل: “والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني”. هذا الموقف يظهر كيف كان عطاؤه فوريًا ومطلقًا، حتى فيما يحتاجه ويحبه.

4. التمكين والحلول المستدامة:

لم يكن هدف النبي صلى الله عليه وسلم هو خلق مجتمع من المتلقين السلبيين للعطاء، بل كان يسعى إلى تمكين الفقراء وتحويلهم إلى أعضاء منتجين في المجتمع.

  • الحث على العمل: عندما جاءه رجل من الأنصار يسأله، قال له النبي: “أما في بيتك شيء؟”. قال: بلى، حِلسٌ (كساء غليظ) نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب (إناء) نشرب فيه من الماء. فقال: “ائتني بهما”. فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله بيده وقال: “من يشتري هذين؟”. فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم. قال: “من يزيد على درهم؟” مرتين أو ثلاثًا. قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين. فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين فأعطاهما للأنصاري وقال: “اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدومًا (فأسًا) فأتني به”. فأتاه به، فشد فيه النبي عودًا بيده، ثم قال له: “اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يومًا”. فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوبًا وببعضها طعامًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة”.
  • هذا المنهج النبوي هو قمة الحكمة: لم يعطه درهمًا وينصرف، بل علمه كيف يكسب رزقه، وحفظ له كرامته، وحوله من سائل إلى عامل منتج.

5. الصدقة والزكاة كحق وليس منّة:

لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للعطاء الفردي فقط، بل أسس نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا متكاملاً يضمن حق الفقير.

  • فرض الزكاة: جعل الزكاة ركنًا من أركان الإسلام، وهي حق معلوم يُؤخذ من الأغنياء ويُرد على الفقراء. هذا حول الإحسان من عمل تطوعي إلى واجب إلزامي، مما يضمن وجود مصدر دخل ثابت ومستدام للفقراء والمساكين.
  • تنظيم الصدقات والأوقاف: حث على الصدقات الجارية والأوقاف التي يستمر أجرها ونفعها، مما خلق مؤسسات خيرية قادرة على دعم المجتمع على المدى الطويل.

إن تعامل النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع الفقراء والمحتاجين لم يكن مجرد ردود أفعال عاطفية، بل كان رؤية استراتيجية ومنهجًا تربويًا لبناء أمة متراحمة ومتكافلة. لقد علمنا أن القيمة الحقيقية ليست في حجم ما تملك، بل في حجم ما تعطي. وعلمنا أن العطاء الأسمى هو الذي يحفظ الكرامة، ويجبر الخاطر، ويمكّن الإنسان.

في عالمنا اليوم، الذي تتسع فيه الفجوة بين الأغنياء والفقراء، نحن أحوج ما نكون إلى استلهام هذا النموذج النبوي. أن نتذكر دائمًا أن الرحمة والعدالة والاحترام ليست مجرد شعارات، بل هي ممارسات يومية تبدأ بابتسامة، وتمر بكلمة طيبة، وتتوج بعطاء كريم يمكّن الإنسان ويحفظ إنسانيته.


اكتشاف المزيد من عالم المعلومات

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

ما رأيك بهذه المقالة؟ كن أول من يعلق

نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على موقعنا. تساعدنا هذه الملفات على تذكر إعداداتك وتقديم محتوى مخصص لك. يمكنك التحكم في ملفات تعريف الارتباط من خلال إعدادات المتصفح. لمزيد من المعلومات، يرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية لدينا.
قبول
سياسة الخصوصية